جويس منصور.. زهرة الشرّ وشاعرته

09 ديسمبر 2014
(تصوير جيل إيرمان)
+ الخط -
تفلت الشاعرة المصرية جويس منصور (1928 ـ 1986) من التعريفات التي تخدم عادةً كتابة تاريخ الأدب أو الفن. من دون أن تقصد، أو حتى تهتم بذلك، تتجاوز هذه التعريفات وتمحوها. يتعذّر الإمساك بها لأن حيوات كثيرة تجتمع في حياتها، وبعض من هذه الحيوات تبدو متضاربةً في ما بينها.

ولعل هذا التحدّي تحديداً، إلى جانب الشغف الكبير بشخصية هذه الشاعرة، هو الذي دفع زوجة ابنها، المؤرّخة ماري فرانسين منصور، إلى وضع كتاب حولها، صدر حديثاً بعنوان "جويس منصور ـ حياة سوريالية" عن "دار فرانس أمبير" الباريسية. بحثٌ غنيّ بالمعطيات والتحليلات الثاقبة، ارتكزت ماري فرانسين فيه على أرشيف الشاعرة، وأيضاً على شهادات بعض المقرّبين منها الذين ما زالوا على قيد الحياة. من هنا أهميته.

جويس منصور، كما نتخيّلها في الثلاثين من عمرها، شابة سمراء تتمتع بأناقة وجمال كبيرين، كما يتجلى ذلك في صورها أو في شهادات من عرفوها آنذاك. في الوقت ذاته، هي شاعرة تعكس أعمالها القارصة والجارحة لامبالاتها باللياقة، وتبدو مسكونة بهواجس سوداوية، حاضرة لاعترافاتٍ بلا مواربة أو تحفّظ، مستعينةً بمفردات جسدية فجّة. لا شيء في المرأة أو الرجل لا تتجرأ على تسميته: لا الأعضاء ولا الأحاسيس ولا الرغبات.

إذاً، من جهة، لدينا امرأة فاتنة بجسد تتألق عليه ملابس أكبر مصممي الأزياء؛ ومن جهة أخرى، لدينا مراقِبة مقلِقة لا تعرف الحياء وذات لغة صاعقة. بودلير تنبّأ بهذا النوع النسائي: لا نقصد النوع الذي تحدّث عنه الشعراء الرمزيون، أي المرأة الملائكية والعشيقة المجرِّبة في جسد واحد، بل المرأة الفاتنة التي تعرف كيف تبرز جمالها، وشاعرة العدم معاً. جويس منصور هي زهرة الشر وشاعرته في كائن واحد.

لكن هذه الازدواجية ليست الوحيدة أو الأكثر إرباكاً لنا. نموذج الشاعر الحديث، منذ الحقبة الرومنطيقية وحتى اليوم، مبدعٌ فقير ومستوحد، يسخر منه المجتمع أو يتجاهله، مثل بودلير، رامبو، لوتريامون؛ يسير أحياناً على حافة الجنون، أو حتى داخله، مثل نِرفال، أو أرتو.

باختصار، لا نتصوّره إلا ملعوناً. وإن اختلط بالآخرين فلطلب المساعدة، ولو كلّفه ذلك الرفض وغلاظة الآخرين. جويس منصور عكس هذا النموذج. لم تتردد على صالونات الآخرين، بل أحيت صالوناً في منزلها. كانت غنية، محاطة بأصدقائها المعجبين جميعاً بها، تعيش حياة مترفة، في أحد أجمل الأحياء الباريسية، وتجمّع، مع زوجها سمير، الأعمال الفنية الحديثة والمنحوتات "البدائية". وبالتالي، لا تتوافق هذه المبدعة إطلاقاً مع صورة الشاعر الحديث.

ولو أنها رفضت الأمومة لتوافقت، في هذه المسألة على الأقل، مع الأسطورة؛ لكنها أنجبت طفلين ولم تهملهما أو تهجرهما، مجبرةً المؤرّخ على الاعتراف بإمكانية أن تكون شاعرةً ذات حدّة وحشية وسوداء، وفي الوقت ذاته، امرأةً فاتنة وزوجة وأماً حنونة.

نعرف ارتباط جويس منصور الوثيق بالحركة السوريالية، لكن ما يجهله كثيرون هو ابتعادها كل البعد عن نمط حياة السورياليين ومواقفهم. فهي لم ترفع أبداً شعار الثورة السياسية، وما عاشت على هامش المجتمع الرأسمالي، ولا حتى تمرّدت على عائلتها. ومع ذلك، وقّعت أكثر البيانات التحريضية والانتهاكية حدّةً، واستضافت في منزلها "تنفيذ وصية الماركيز دو ساد"، أي الحفل الشهير الذي نظّمه السورياليون احتفاءً بذلك الكاتب الفضائحي. وبالتالي، ندين لها باللحظات الأكثر إشعاعاً للرمزية الجنسية في زمنها، وبالتعرية الأقل حياءً للأجساد والرغبات.

ما الذي حصل لجويس منصور؟ كيف تعايش هذا الكم من الكائنات المختلفة داخل جسدها وروحها؟ الأجوبة عن هذين السؤالين لا يمكن أن تكون إلا جزئية. "الآنسة الغريبة"، كما تسمّي نفسها في إحدى قصائدها، ستبقى غريبة.

طبعاً لعبت حوادث حياتها، اقترابها الباكر من الموت، تجربة المنفى الفجائي، دوراً في تكوينها. لكنّ كمّاً من النساء اختبرن أحداثاً مشابهة ولم يصبحن جويس منصور. لذا، لا تكفي هذه التفسيرات لمحاصرة شخصيتها. ومع ذلك، كان لا بد من خوض هذه المغامرة، مغامرة قراءتها على ضوء أحداث حياتها. وهو ما تقوم به ماري فرانسين منصور، بمهارة وإلهام كبيرين في كتابها الذي لا تستسلم فيه للطُرَف الحميمة ولا للمديح الغنائي، بل تعرض بوضوح وموضوعية كل ما يمكن أن نعرفه اليوم عن جويس منصور، بعد التنقيب في أعمالها الشعرية ومراسلاتها وشهادات مَن عاشرها. بحثٌ نجد فيه معلومات إضافية كثيرة حول تاريخ السوريالية في عقدَيها الأخيرَين والموقع الذي احتلّته الشاعرة داخل هذه الحركة.

وفعلاً، باستثناء المبدعات الشهيرات، مثل ليونورا كارينغتون وليونور فيني وفالنتين هوغو وميريل أوبنهايم، شكّلت النساء اللواتي رافقن الحركة السوريالية إما موحيات، أو رفيقات درب شعراء هذه الحركة وفنانيها.

أما جويس منصور فاحتلت موقعاً خاصاً. فمع أنها كانت في قلب السوريالية، لكن السلطة التي مارستها ـ سلطة فتنتها ـ لم تكن على حساب استقلاليتها. صديقة أندريه بروتون وحافظة أسراره، كانت على صلة يومية مع رائد السوريالية بين عامَي 1956 و1966، وشاركت في مجلات مجموعته وكتالوغاتها ومعارضها واجتماعاتها.

ولا عجب في افتتان بروتون ورفاقه بها، فإلى جانب جمالها الملغز، كانت شاعرة كبيرة، تشكّل مجموعاتها الشعرية مسرح قسوة تحتفي على "خشبته" بالألم وبشاعة العالم، وتُحوّل نزوة الموت إلى حركة خلّاقة. بكتابتها الانتهاكية، كانت تضمّد جروحها وتدجّن الوحوش التي تسكنها، وبالتالي تتجنّب الاستسلام لعذاباتها. مسعاها الشعري إذاً تعزيمي و"بودليري": "يا ألمي، أعطني يدك".

سرّية في ما يتعلق بحياتها الشخصية، كانت تكتب بلا مواربة أو تجميل. كتابة جسدية يختلط فيها القلق بالرغبة. وتشخص بطريقة شبه ذكوريّة بالشرّ والموت. ولا عجب في ذلك طالما أنها كانت تعيش محاطةً بالرجال وتنسج معهم علاقات صداقة صريحة ووثيقة: بروتون طبعاً، وأيضاً هنري ميشو وأندريه بيار دو مانديارغ وبيار أليشينسكي وروبرتو ماتا وخورخي كاماشو وويلفريدو لام وألان جوفروا وميشيل ليريس وجان جاك لوبيل... ومن تَعانُق مخيلتِها بمخيلاتِهم انبثقت أعمال مشتركة مدهشة في غرابتها.

ولأن الحياة شكّلت، بالنسبة إليها، امتحاناً قاسياً، منذ طفولتها، جاءت أعمالها الشعرية على شكل تعرية فاضحة؛ تنخرط قصائدها في الواقع وتشكّل، في الوقت ذاته، صدى لأحلامها، كي لا نقول كوابيسها، من دون أن يكون ممكناً فصل اليومي عن الحلمي. كتابة صورية ترسم رؤاها الوحشية، المنحرفة، الفريدة، وتطغى عليها تلك الدعابة السوداء التي ثمّنها السورياليون كثيراً.

مختارات من شعر جويس منصور

المساهمون