يكتسب الحديث مع جوزيف مسعد قيمة خاصة في قاهرة لم تعد تقوى على أي حوار ثقافي وفكري حر. يكتب أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث بجامعة كولومبيا بنيويورك، أعماله باللغة الإنجليزية، نُقل منها كتابان إلى العربية: "ديمومة المسألة الفلسطينية: مقالات بحثية حول الصهيونية والفلسطينيين" (2006)، و"اشتهاء العرب" (2007).
ينتقد المفكر الفلسطيني، أردني الجنسية، المفكرين الذين يعتمدون ثنائية التقدم والتخلف، خلال بحثهم عن أسباب تراجع دور العرب والمسلمين، منذ سؤال شكيب أرسلان (1906): "لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟".
في هذا السياق، يقول في حديثه إلى "العربي الجديد" أثناء زيارته إلى القاهرة: "منذ القرن التاسع عشر، والمفكرون العرب ينتجون أفكارهم داخل منظومة الداروينية الاجتماعية، بمعنى أن الزمن خطّي بالنسبة لهم، يبدأ من البدائية ويتقدّم حتى يصل إلى الحداثة وما بعد الحداثة، ومن هنا تأتي فكرة "التخلف" عن هذا "التقدم"، وبرأيي أن هذه الفكرة طُرحت في الأساس داخل منظومة إمبريالية عنصرية، تُعرقِن (أي أنها تصبغ عرقية معينة) على من تقدم ومن تأخر بالمعنيين الزمني والمكاني".
التناقض المُغالِط بين الحداثة والتراث
دعا أغلب المفكرين في العالم العربي، للتخفّف من أعباء الماضي، بعد هزيمة 67، يقول: "أرجَعوا كل ما اعتُبر أنه أدى إلى الهزيمة إلى عوامل ثقافية بحتة، تتلخّص في ثقافة وتراث العرب والإسلام، وبدأوا بتوجيه الاتهامات لمن سبقوهم على أنهم كانوا نرجسيّي النزعة، أو على فشلهم في تغيير وتحديث الثقافة العربية والإسلامية أو على عدم مقدرتهم على نقد هذه الثقافة. وبرأيي فإن هؤلاء المفكرين وقعوا في نفس الفخ، الذي اتهموا به سابقيهم".
يُوضّح: "يظهر ذلك منذ أن كتب المفكر السوري، صادق جلال العظم، كتابه الشهير "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، الذي يمكن أن نُسميه "الكره الذاتي بعد الهزيمة"، لأن من يستخدم كُره الذات في التحليل، كالذي يستخدم عبادة الذات، تماماً، لأن النرجسية شقّان: شق إيجابي "حب الذات" وشق سلبي "كره الذات"، وفق منهج التحليل النفسي، وعندما نتابع الإنتاج الفكري العربي منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، سنجد أن أغلبه كان نقداً ذاتياً لا يكل، وبالتالي ظهرت فيه نبرات جلد للذات مفادها أن المشكلة فينا وأننا يجب ألا نلوم الآخر".
يُضيف: "وعلى الرغم من هذا التاريخ الفكري النقدي للذات، يُطل علينا اليوم جيل جديد من الليبراليين العرب، وأغلبهم من النيوليبراليين أيضاً، يُطالبون العرب ومثقفيهم بنقد الذات وبعدم تحميل الآخر وزر مشاكلنا". يستغرب مسعد من "الجهل المهيمن على هذه الشلل الليبرالية والنيوليبرالية؛ حيث إنهم لا يعون أن قدراً كبيراً من المفكرين في تاريخ الفكر العربي الحديث لم يدّخروا وسعاً في مدح الآخر وتبخيس الذات".
نقائص الفكر النقدي العربي
غياب التحليلات الاقتصادية عن مسرح تلك السجالات الفكرية، واعتبار الثقافة عاملاً مستقلاً، هو أبرز ما ينتقده مسعد: "كانت هناك محاولات مهمة لاستدخال التحليل الاقتصادي قبل 1967، وبقيت حتى السبعينيات، لكن مع دخول عصر النيوليبرالية، أصبح حصر المشكلة في الإطار الثقافي فقط، وبالتالي فطرق الخلاص قيل إنها يجب أن تكون ثقافية على وجه التحديد، ومن هنا ظهرت مطالبات بعض المفكرين بـ"مارتن لوثر مسلم" أو "فولتير عربي"، من دون التطرّق إلى أي نوع من التحليل الاقتصادي لا سيّما عند المفكر السوري جورج طرابيشي".
يستثني مسعد في رصده لتلك السجالات، المفكر اللبناني مهدي عامل، إذ يقول: "عامل من بين قلة من المفكرين الذين رأوا دوراً أساسياً لرأس المال في تلك الأزمة، مثلما بيَّن في كتابه المهم: "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية"، في معرض انتقاده للمؤتمر الذي انعقد في الكويت في 1974، حول "أزمة الحضارة العربية"، عندما عارض عامل فرضية أن تخلّف المجتمع العربي، نتيجة لإصرار الماضي على البقاء في الحاضر، التي تحدث عنها المشاركون في المؤتمر (مثل أدونيس وفؤاد زكريا وغيرهما) ورأى عامل أن الذنب ذنب الحاضر، وليس الماضي؛ لأن الأول سببٌ في بقاء الثاني داخله، لا العكس".
وبينما كانت هناك محاولات من جانب بعض المفكرين، مثل اللبناني حسين مروة والسوري الطيب تيزيني وغيرهما، للخروج بأسباب الأزمة من سياقها الثقافي فقط، إلا أن مسعد يلاحظ أن "مشروعاً مثل "نقد العقل العربي" للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، لم يخرج عن ثنائية التراث والحداثة، وحتى أبرز ناقدي الجابري، وهو جورج طرابيشي، في "نقد نقد العقل العربي" لم يخرج أيضاً عن تلك الثنائية".
ويضيف: "برأيي هناك "تشييء" لهذه المفاهيم، ومن المعروف أن مصطلح "تراث" ظهر في أوائل القرن العشرين، وما نسميه الآن تراثاً لم يكن يسمى هكذا قبل ذلك، فالتراث نفسه إذن مفهوم حداثي، مؤدلج؛ التراث هو نتاج الحداثة ولا يسبقها زمنياً بل هي التي تسبقه زمنياً وإن كانا متزامنين مع بعضهما البعض منطقياً؛ كي يكون هنالك حداثة وجب اختراع نقيض لها وهو ما سمي تراث. فحين نتحدث عن ثنائية التراث والحداثة كنقيضين، نقترف مغالطة فلسفية ومنطقية".
سجالات مسعد
منذ حوالي ثلاثة أشهر أطلق أدونيس دعوة لتأسيس "جبهة علمانية تعيد قراءة الموروث"، أثناء إلقائه محاضرة بـ"معرض القاهرة الدولي للكتاب"، واصفاً الثقافة العربية بأنها لا تُعلّم سوى الرياء والنفاق والكذب. يُعقّب مسعد: "أعتقد أن أدونيس يعتمد باستمرار على المقولات الاستشراقية بشكل منهجي في أعماله، وهو ليس وحيداً في هذا، لكنني لا أعتقد أن ما يطرحه مقنع".
ويبيّن: "لا أريد اختزال عنصر رأس المال المحلي والامبريالي، باعتباره العنصر الوحيد في ردي على هذه الطروحات الثقافوية. فرأس المال عامل أساسي، ولكن هناك بالتأكيد عوامل أخرى تتداخل معه، لا سيّما الثقافة ولكن ليس كعامل مستقل كما يطرحها أدونيس وغيره بل كمنتَج وكمنتِج للمجتمع والسياسة والاقتصاد، حيث إنها متشابكة معها جميعاً في عملية ديناميكية لا تكل عن الحركة".
درج قسم كبير من المفكرين العرب، على وصف القرون العثمانية بالانحطاط، في هذا السياق يقول: "انحطاط كلمة أوروبية بالأساس، وتم توظيف المصطلح لأسباب سياسية، أثناء حركة النهضة العربية، من منطلق قوموي، للتنديد بكل المنتج العربي الثقافي أثناء حكم الدولة العثمانية، واعتباره خارج العروبة".
يضيف: "أثبت الدارسون الخطأ الكبير لتلك الفكرة، حيث كان لهذه المرحلة إنتاج ثقافي عربي جيدا من الشعر والأدب وعلوم الشريعة، لكن أغلبه لم ينشر، وما زال مخطوطاً، وحدث ذلك برأيي لأسباب أيديولوجية، ويجب الإشارة هنا إلى أن القومية العربية في ذلك الوقت، كانت تُشَجَّع من قِبل الإمبريالية الفرنسية والبريطانية، كجزء لا يتجزء من مشروعها لتقويض الدولة العثمانية، من خلال طرح العثمانيين باعتبارهم استعماراً كارهاً للعربية والعروبة وهو ما ينطبق فقط على الوضع في العقود الأخيرة القليلة من الحكم العثماني".
لكن المفكر الفلسطيني يقر أن "هذا لا يعني عدم وجود انتقادات يمكن توجيهها للدولة العثمانية، ولكن يجب أن ننظر إلى التحالفات العالمية آنذاك، على ضوء محاولات أوروبا إخراج الولايات العثمانية التي يدين أهلها بغير الإسلام، باعتبار أنه لا يحق للدولة العثمانية أن تحكم غير المسلمين، وبخروج اليونان وبلغاريا أو البلقان بشكل عام، من تحت سيطرة العثمانيين، أصبحت الولايات العربية هي الولايات (غير التركية) المسلمة، التابعة لهم، وكان تشجيع الإمبريالية الأوروبية للقومية العربية آنذاك، جزءاً من مشروع تجزئة الدولة العثمانية على أسس إثنية بعد أن تم تقليصها على أسس دينية".
اشتهاء العرب أو تناقضاتهم المفروضة
في كتابه "اشتهاء العرب" تناول مسعد التاريخ الفكري لعملية تصوير الشهوات الجنسية عند العرب، وكيف تم ربط هذا التاريخ بالقيمة الحضارية، كما أعد أرشيفاً للكتابات العربية التي تطرقت لموضوعات الجنس والشهوة وأدرجتها في مفهومها للحضارة والبدائية، وقام بتحليل ذلك الأرشيف وعلاقته بنظريات المعرفة الاستشراقية والإمبريالية والقومية.
حول هذه الفكرة يقول: "عندما كانت أوروبا تعيش في العصر الفيكتوري، أنتج مستشرقوها معرفة عن العالم العربي والإسلامي بكون سكانها يعيشون في مجتمعات منحلَّة أخلاقياً، مقارنة بالمنظومة المفاهيمية والفكرية الأوروبية القائمة على قمع الممارسات الجنسية خارج الزواج الغَيْري المسموح به في أوروبا آنذاك، وبعد الثورة الجنسية في الستينيات في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، نجد أن الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن العالم العربي، بدأوا بتصوير المجتمع العربي على أنه مجتمع مكبوت جنسياً، ولا يسمح بالممارسات الجنسية "الحرة" كما يحصل زعماً في أوروبا والولايات المتحدة، وهذه هي المفارقة".
يعتبر مسعد أن "أكبر جريمة ارتكبها الرجل الأبيض، ليست عنصريته ضد السود، ولكن تعليم السود أن يكرهوا أنفسهم، كما يقول مالكوم إكس، وهذا ينطبق أيضاً على العرب والمسلمين، باستدخال المنظومة الاستشراقية في الحكم على أنفسنا وعلى ثقافتنا، بما أصبح يسمى النقد الذاتي الواجب من منظور استشراقي على كل عربي ومسلم، وأنا هنا وبطبيعة الحال لا أرفض كل ما هو أوروبي لأنه أوروبي كما يفعل كارهو الغرب، ولا أقبل به لمجرد أنه أوروبي كما يفعل عشاق الغرب".
كناقد لفلسفة الفكر القومي بشكل عام، بما في ذلك خطاب القومية العربية والقوميات والوطنيات القُطرية، يحلل مسعد في كتابه الفكر الذي يمجّد الذات ويمجّد أوروبا أيضاً. لكن نقده للفكر القومي في البلاد المستَعمرة، ولا سيما البلاد العربية، يأتي من زاوية تواطؤ هذا الفكر مع الفكر القومي الأوروبي الكولونيالي على المستوى المعرفي والمفاهيمي والمؤسساتي، حتى وإن قاوم هذا الفكر المشروع الكولونيالي العسكري وناهضه.
منظومة المعرفة الاستشراقية
وجَّه بعض المفكرين عدة انتقادات لما يُسمى بـ"دراسات ما بعد الاستعمارية"، أبرزها تحميل الاستعمار جميع الأزمات الحالية التي تعيشها البلاد التي كانت مستعمَرة، على اعتبار أن "الاستشراق" كان في حقبة زمنية وانتهت.
يعقب صاحب كتاب "تأثيرات كولونيالية": تشكل الهوية الوطنية في الأردن" (وهو بصدد الترجمة حالياً إلى اللغة العربية) قائلاً: "المنظومة الاستشراقية المعرفية الغربية ما زالت مسيطرة تماماً، ليس بالضرورة على المستوى السياسي، على العكس، فالولايات المتحدة، كما أبيّن في كتابي الأخير "الإسلام في الليبرالية" تنفق ملايين الدولارات لتشجيع الإنتاج الأكاديمي الاستشراقي المعرفي عن العرب والمسلمين، ويتم تصويرهم من قبل المحافظين الغربيين، على أنهم يعشقون الديكتاتورية والاستبداد، وأن إرغامهم على الديمقراطية نوع من أنواع الإمبريالية الثقافية".
يواصل فكرته: "في نفس الوقت تنفق أميركا، ومن قبلها بريطانيا وفرنسا، المليارات (لا الملايين)، لقمع العرب والمسلمين، كي لا يحصلوا على الديموقراطية التي ينادون بها، لأن نهاية حالة الاستبداد التي تمارسها الأنظمة العربية، تتنافى مع مصالحهم الاقتصادية، المتمثلة في البترول، في المقام الأول. إذن فالشق السياسي يختلف عن الشق المعرفي، وإذا كان الأخير مُهماً على مستوى "البروباغندا"، فالأول يعي تماماً أن العرب والمسلمين كغيرهم من الشعوب يرفضون الاستبداد مما يستوجب قمعهم".
وهم ثقافة مستقلة
وحول السياسات الثقافية في البلاد العربية، وظهور ما يسمى بـ"الثقافة المستقلة"، يرى مسعد: "أنه منذ حوالي عقدين، ظهرت مؤسسات فنية في مصر، بتمويل خارجي، واعُتبرت أنها مستقلة عن مؤسسات الدولة الثقافية، لكنها برأيي ليست مستقلة البتة، وأنا لا أناقش الآن ما تقدمه هذه المؤسسات من الناحية الفنية، ما أريد التأكيد عليه هو أنها ليست حرة البتة، كما يروّج لها، لأنها تحتكم إلى منظومة معرفية وتمويلية أخرى".
يتساءل المفكر: "كيف تُعتبر مؤسسات الدولة الثقافية مكبلة لحريات التعبير، ومنظومة رأس المال الخاص لا تعتبر كذلك؟" ويعتبر أن "كثيراً من الفنانين الذين يتعاملون مع ما يسمى بالمؤسسات المستقلة، يعرفون مسبقاً ما يُعجب هذه المؤسسات والقائمين عليها من أجانب ووكلاء محليين، ويعون أن إمكانية وصولهم للشهرة العالمية أو حتى المحلية والدخل المادي الأعلى الذي سيترتب على ذلك أسرع عن طريق هذه المؤسسات منه عن طريق وزارة الثقافة المحدودة المصادر والمواهب. إذن فهم مستقلون مثلاً عن وزارة الثقافة المصرية أو الأردنية، لكنهم ليسوا مستقلين عن المنظومة العالمية الرأسمالية غير الحكومية لتسويق الفن، والتي أنتجها رأس المال النيوليبرالي منذ الثمانينيات". يُلاحظ أيضاً أن "ترويج الفن الأفريقي والعربي دائماً ما يُروَّج في سياق فولكلوري واستشراقي، في الوقت الذي تُسوَّق فيه المنتجات الثقافية الأوروبية باعتبارها كونية".
مآلات التغيير
وعن انطباعاته حول مآلات الانتفاضات العربية، يقول مسعد: "في بلد مثل مصر، نجد أن أكثر من 80% يعيشون على خط الفقر أو تحته، وهذه القضية كان يجب وضعها على قائمة الأولويات لأي مشروع تغيير، سواء كان إصلاحياً أو ثورياً، لكن قضية الاقتصاد لم تأخذ الحيز الأكبر من اهتمامات القيادات التي تتحدث باسم الثورة وإن نادى بها كثيرون".
ينتقد مسعد تصوير الصراع في مصر على أنه صراع إسلامي/ علماني، يقول "من المعروف أن لليبراليين شق علماني وشق إسلامي، لكن هنالك نظرة استشراقية تضع كل الإسلاميين في سلة واحدة، سواء كانوا إسلاميين ليبراليين أومحافظين أو نيوليبراليين وهكذا، وأنا أرفض هذه النظرة. يصف الليبراليون في مصر (وأغلب هؤلاء أيضاً من النيوليبراليين) الإسلاميين بأنهم فاشيو النزعة، لكن السنوات القليلة الماضية أثبتت أن الليبراليين المصريين هم الأكثر فاشية، مقارنة بمعظم التيارات السياسية الأخرى، ويُلاحظ أن أغلبهم لم يوجهوا نقداً رئيساً لسياسات الإخوان المسلمين الاقتصادية، التي لم تختلف عن النظامين السابق واللاحق لها، في تحيزها للأغنياء على حساب الفقراء. وإن طرح البعض نقداً اقتصادياً، فهذا النقد لم يتصدر المشهد الذي طغى عليه النقد الليبرالي والثقافوي الاستشراقي النزعة في معظم الأحيان".
وحول موقفه الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية والثقافية العربية، حول الثورة السورية، يقول: "ما كتبته عن سورية هو تحليل لما رأيناه في حالة العراق، كانت هناك نخبة من العراقيين في الخارج تدعوا باسم الديمقرطية إلى تدخل أميركا والغرب لإنهاء حكم صدام حسين بسبب طغيانه المعروف، وتكرّر سيناريو التدخل في ليبيا بعد ذلك تحت نفس الحجة، ودعا له علمانيون وإسلاميون، وكان وبالاً على الليبيين مثلما كان على العراقيين؛ فنحن نعلم أن الإمبريالية الأميركية والغرب لم يتدخلوا في تاريخهم لإنهاء حالة استبداد، بل هم من يساندون المستبدين في العالم العربي، وفي عدة حالات هم من جلبوا المستبدين إلى الحكم أصلاً وتدخلوا لتمكينهم".
يضيف "في حالة سوريا الآن، نسمع من قيادات المعارضة مثل هذه الدعوات بالتدخل الخارجي باسم الديمقراطية؛ فهم يريدوننا أن نكون إما مع طغيان نظام الأسد أو مع طغيان تجلبه الدبابات الأميركية والتمويل الخليجي والتركي والسلفي، كأنه من غير الممكن أن نعارض النظام المستبد والتدخل الخارجي وأعوانه الخليجيين وأزلامهم المستبدين معاً. فإن كانت المعاناة تحت الطغيان هي ما يتسبب بالدعوة للتدخل الخارجي، فأنا لا أفهم لماذا إذن لم يطالب الشعب الفلسطيني بتدخل عسكري، لا سوفييتي ولا أميركي، لتخليصه من الاحتلال منذ 1948 على الرغم من معاناته المستمرة، وهذا ينطبق على باقي الشعوب العربية التي تعيش تحت الطغيان أيضاً والتي لم تطالب أميركا بغزوها لتحريرها".
يُلاحظ المفكر الفلسطيني انحسار دور اليسار العربي في العقود الأخيرة، وقد ظهر ذلك بوضوح منذ اندلاع الانتفاضات الأخيرة، في هذا السياق يقول: "هناك عاملان لهذا الأمر: خارجي وداخلي. حاربت الولايات المتحدة والأنظمة الاستبدادية العربية اليسار العربي حرباً شعواء منذ الخمسينيات، دون إغفال عدم مقدرة اليسار على بلورة فكر جديد بعد هزيمة 67 له مد شعبي لمواجهة المد اليميني، العلماني منه والإسلامي".
جينولوجيا الإسلام
في آخر أعماله، "الإسلام في الليبرالية" (2015، وهو بصدد الترجمة إلى العربية)، يتناول مسعد مفهوم الإسلام من قبل الليبرالية الغربية، إذ يقول: "كتابي الجديد بمثابة مقدمة لكتاب آخر، أنا بصدد كتابته الآن وعنوانه "جينولوجيا الإسلام"، أي التاريخ الاسمي للإسلام، أوضح فيه كيف تختلف استخدامات كلمة "إسلام" في الأدبيات العربية والإسلامية، منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتأثير الاستشراق والحداثة على فكر ووعي وهوية المفكرين العرب والمسلمين. أما كتاب "الإسلام في الليبرالية" فيتناول كيف تعاملت الليبرلية الغربية منذ نشوئها بشيئ أسمته بـ "الإسلام" الذي كان من أهم مكوناتها على المستوى المفاهيمي والسياسي.
يطرح الكتاب كيف تعرف الليبرالية علاقتها والعلاقة المزعومة للإسلام بالديمقراطية، وبالمرأة، وبالجنسانية، وبالمفهون الغربي الحديث للدين، كما يحلل الكتاب مناهج التحليل النفسي لـ"الإسلام" وارتكاز أغلبية المحللين النفسيين، لا سيما التونسي-الفرنسي فتحي بن سلامة والمصري الفرنسي مصطفى صفوان، على مفاهيم ليبراية استشراقية غير تحليل-نفسية في مقارباتهم".