جوزيف عيساوي.. حصة الشعر من التلصص

12 ديسمبر 2014
+ الخط -

إذا كان لا بد من وصف قصيدة جوزيف عيساوي في إصداره الأخير "ميت سكران يطلب المزيد" (دار الإبداع)، فإنه احتمالات الشعر المتعددة في القصيدة الواحدة. جُمَلُه المنفلتة من حكايا مقتضبة أو ملاحظة لمّاحة، تستقر في الصورة غالباً. إنها بمثابة إرشادات على الطريق الوعر الذي يكنسه الشاعر بكثير من الدقة، ومن دون تعثُّر بالاستعارة، للوصول إلى القصيدة.

عيساوي، في كتابه الجديد، مهتم دائماً بالعودة إلى القصد الأول، النيّة الشعرية. هي الركن الذي لا يتصدع، وكلمة السر التي يبني بموجبها نصه. من هنا، فالشعر خط الوصول النهائي، الذي يسلكه بتمهل ومن دون لهاث. كأن كل جملة في نصه مرتَّبة بعناية شديدة كي تؤدي جزءاً من المعنى، كي تقول حصتها من الفلسفة أو الموقف الوجودي أو كل الشعر.

قصائده أشبه ما تكون بخلاصة قصائد سابقة. نتاج دقيق بعد تكرير النص وتمريره في أنابيب مختبره. ومختبر عيساوي ذاكرته حيناً، وصيده اليومي من المشاهدات حيناً آخر، التي يُنزَلُ فيها موقف الشاعر الصارم.

فكل ما يقع في دائرة الحياة يمكن أن يشكّل تِركَة شعرية، أو مادة أولية للقصيدة. بذلك يبدو العالم من حوله متناثراً، مفكّكاً على شكل شذرات. وهذه تشترط استنفاراً عاطفياً في شخص الشاعر كي تكتمل. أي أن المحيط الاجتماعي المتحرك يقابله دوماً ارتداد طارئ إلى الذات. لجوء إلى ما يؤرق وعي الشاعر، أو يؤلم عاطفته، دون بحث في اللحظة.

كما لو أن عيساوي الشاعر يتربص بعيساوي اليومي، فيصبح هو بذاته مهيَّأً في كل لحظة ليكون وسيطاً لما هو ظاهري. أيضاً العوالم الخافتة للحانة والمقهى وأبطالهما والمطبخ والمنزل وأشخاصه (الأم، الحبيبة، العشيقة، الطباخة) والكنيسة والشارع. كأنَّ، في كل حدث، مرآة شعرية صغيرة، يستلها الشاعر ويعيد كسرها وترميمها فتخرج قصيدة.

في كل هذا، يبدو الشرط الذي يتمسك به عيساوي هو "القفلة" الشعرية، التي تشكل عتبة أخيرة يطل الصمت بعدها هائلاً. كل انتهاء يعقبه إحساس بسكون فضاء القراءة. وكأن الجملة الأخيرة تنطوي على انفجار، من شأنها إفساح المجال لنا كي نتأمل كل القصيدة من جديد ونقرأها بإيقاع أكثر انتباهاً. كما لو أنه يدفعنا لمشاهدته وهو يكسو جلد قصيدته بقماشة أكثر عمقاً، ويستولد فيها أبعاداً أخرى.

إنه اجتهاد بالاقتضاب، وعدم إجهاد القصيدة، وتلوين في نبرة كل عبارة، وحمل النص من جميع جهاته. فلا إذعان في قصيدته للمكوّن السوريالي أو الرومانطيقي أو الاعترافي. كأن قصيدته أيضاً لا تسلم من تلصصه.

المساهمون