19 سبتمبر 2022
جسور الموصل المقطّعة
سميّت الموصل بهذا الاسم منذ القدم، كونها تربط الشرق بالغرب، من خلال جسرها الاستراتيجي في الجغرافيا التاريخية، فهو يربط كلاً من ساحليها الأيمن والأيسر (نينوى) على نهر دجلة، والنهر قادم بمياهه المتدفقة من قلب الأناضول، ليمرّ بأول مدينة عراقية، حيث يشقّ الجانبين من الموصل ونينوى العريقتين، وهو جسر واحد قديم، كتب عنه المؤرخ الموصلي الراحل، سعيد الديوه جي، بحثاً رائعاً في مجلة سومر العراقية (العدد 12 عام 1956). وبقيت العهود التاريخية تجدّده من زمن إلى آخر، فهو جسر محلي أولاً، يربط كلّاً من سهول نينوى والموصل وأربيل شرقاً بأسواق الموصل غرباً، وكان قد خدم التاريخ الاقتصادي للعراق خصوصاً، والشرق الأوسط عموماً، بنقل ثروات زراعية وحيوانية وسلع تجارية وبريد سلطاني وقوافل وإرساليات وبضائع وهدايا وأسلحة لجيوشٍ متحرّكة بين أقاليم الشرق والبحر المتوسط، فقيمته الإقليمية والدولية في الجغرافيا التاريخية، تتفوّق على أية قيمة، لما يعلو الموصل من سلاسل جبال، وما يدنو منها من قفار، وصولاً إلى بغداد. وعليه، تقوم حياة المنطقة منذ القدم على هذا الجسر، وصولاً إلى قيمته في العالم، كونه أحد مسالك طريق الحرير الشهير بين الشرق والغرب، إذ كان حلقة الوصل لهذا الطريق بين الشرق والغرب، على امتداد العصور الكلاسيكية، وصولاً إلى العصور الوسطى وانتهاء بالعصر الحديث.
ويعلمنا التاريخ أنّ نهر دجلة، المتميز بسرعة جريانه وعذوبة مياهه، حتى سماه الإغريق "تايكرس"، إذ شبهوه بالنمر، كما يقول بطليموس، وكما أعلمتنا تواريخ أخرى كم كان جسر الموصل وسيلة استراتيجية لانتقال جيوش وحكام وأباطرة وشاهات وخانات وسفراء وأسلحة وفاتحين منذ عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب، حيث عبرت منه جيوش المسلمين نحو كلّ من كردستان وأذربيجان وأرمينيا وكلّ قوقاسيا. كما غرقت في دجلة قوافل وحيوانات وفيلة (كانت تعبره خوضاً بسبب عدم قدرة الجسر على تحمّلها عند الموصل، وكانت هدايا مرسلة من خانات الهند وشاهات إيران للسلطان العثماني)، فضلاً عن أنّ الجسر كان يقام ويرفع بسبب التهديدات والحصارات والحروب التي تعرّضت لها المنطقة، ويكفي أن جسر الموصل قد رفع عندما حاصرها نادر شاه لها عام 1743، فأقام نادر شاه جسراً من قواته، لكي يعبر نحو الموصل التي اندحر عند أسوارها اندحاراً مخزياً، ولم تطأها أقدام جيشه أبداً. ولم يزل انتصار الموصل ذاك يقضّ مضاجع أعدائها.
استمرت أهميّة جسر الموصل عالمياً حتى 1869، عندما فتحت قناة السويس في مصر،
والتي ربطت الشرق بالغرب بحراً، فضعفت أهمية العراق ومسالكه قليلاً، ولكن أهمية جسر الموصل الإقليمية ظلت تفوق التصوّر، وبقيت حيوية الطريق السلطاني من البصرة نحو بغداد، ومنها المرور شرق دجلة، حتى عبور جسر الموصل نحو البحر المتوسط عبر حلب. ولقد تفاقم الصراع بين الألمان والبريطانيين الذين كانوا يسيطرون على تجارة الشرق، فتبلور التحالف العثماني الألماني ببناء خط سكة حديد (ب ب ب)، أي برلين بغداد بصرة، وقد نفّذت ألمانيا القيصرية المشروع من دون إكماله بسبب اندلاع الحرب، فأكملته بريطانيا، ووصل إلى بغداد من خلال الموصل، ولكن هذا المشروع قد أحيا مناطق غرب النهر التي كانت شبه ميتة، ثم أكمل الإنكليز المشروع نحو البصرة. وانتفى الطريق السلطاني طريق شهرزور القديم. وغدا جسر الموصل خلال القرن العشرين حلقة وصل بين الشمال والجنوب، فالطريق التجاري البرّي القادم من أوروبا وتركيا عبر نقطة إبراهيم الخليل في قضاء زاخو، لا بدّ أن يعبر جسر الموصل ليأخذ المسلك البري غرب دجلة نحو بغداد والبصرة والخليج العربي.
كانت الموصل تمتلك جسراً واحداً على امتداد العصور، والجسر العثماني القديم يتألف من زوارق تصل إلى قناطر طويلة، ثم بنى الإنكليز جسراً أكثر كفاءة من القديم، ثم أسّسوا جسراً حديدياً جلبوه من بريطانيا، وافتتحه الملك غازي في يونيو/ حزيران 1934 وتسمّى باسمه، ثم تبدّل اسمه لاحقاً إلى جسر نينوى ويسمّى اليوم بالجسر العتيق وقد خدم المدينة والإقليم خدمات لا يمكن أن ينساها التاريخ، إذ تأسسّ جسر ثانٍ في الموصل، افتتحه الملك فيصل الثاني في مارس/ أيار 1958، ثم توالى بناء الجسور في الموصل على دجلة في نهايات القرن العشرين: الثالث شمالاً والرابع جنوباً والخامس في الوسط. ويتميّز كلّ منها بجمالياته وروعته، وكان من المخطّط أن يبنى جسر سادس في أقصى الجنوب.
تم تدمير هذه الجسور العظيمة التي كانت رموزاً حضارية ولها جمالياتها تدميراً ثأرياً، ويقال
إن "داعش" قد ساهم في تدميرها، ويقال إنّ لطائرات التحالف مساهمات فيه بسبب الحرب. كان تدمير جسور الموصل جزءاً من خططٍ مرسومة، سواء لأغراض عسكرية لوجستية أو أمنية سياسية. السؤال هو: إلى متى تبقى جسور الموصل معطلّة ومدمّرة؟ إلى متى تبقى الموصل مشلولة في حركتها وأنشطتها وحياتها اليومية؟ لماذا أهملتها الحكومة العراقية إهمالاً متعمّداً؟ ألا تدرك حكومات العراق أن حياة العراق الاقتصادية البريّة والنهرّية المعتمدة على المسالك القادمة من أوروبا وقوقاسيا وتركيا تمر عبر جسور الموصل نحو بغداد والبصرة والخليج؟ تخيلوا مدينةً حجمها السكاني يزيد على أربعة ملايين من البشر، تعتمد الجسر القديم الذي أفلح في ترميمه بمساعدة من الإنكليز (وهو له مخاطره) وعلى جسر عسكري عائم آخر، في حين لم تزل جسورها مدمّرة؟ ليس من العدل والإنصاف أن تبقى الموصل مزدحمة ومختنقة بالسيارات والشاحنات والناقلات الرسمية والشعبية، وتبقى في الانتظار ساعاتٍ طوالاً، لتجد لها طريقاً تعبر منه على الجسر؟ ألم تدرك الحكومة المركزية في بغداد معاناة الناس، وقد سحقت مدينتهم بقسوة؟ الأهم، ألم تدرك حجم ما يسبّبه ذلك للاقتصاد الوطني؟ ألم تفكّر بأن جسور الموصل تعد معبراً دولياً للتجارة العالمية بين أوروبا وتركيا من طرف وبين العراق والخليج من طرف آخر؟ ألم تعلم الحكومة العراقية أنّ جسر الموصل يعدّ شرياناً حيوياً لاقتصادات كلّ المنطقة؟ ما بالها لا تفعل شيئاً إزاء الجسور المدمّرة؟ ما بالُها قد تركت الموصل وأهلها بلا جسور، وكأنها تريد خنقهم في مدينتهم أو تهجيرهم منها؟ العالم كله مدعوّ إلى التفكير والاهتمام بكلّ ما أوضحته السطور أعلاه، وتقديم الأهم على المهم، من أجل إعادة الحياة إلى الموصل. ولكن بماذا يمكن تفسير التعنّت الرسمي إزاء إعادة الإعمار لكل ما هو مدمّر؟ هل هو ثأر تاريخي من مدينةٍ عريقةٍ حيويةٍ تعدّ الأقدم في العالم؟ أم هو ثأر سياسي وطائفي ضدّ سكان المدينة الذين كانوا وما زالوا يعتزون بخصوصيتهم الثقافية، وتقاليدهم الاجتماعية، وسبل حياتهم الحضرية، وتميزهم بالعمل والإنتاج والإبداع؟
ويعلمنا التاريخ أنّ نهر دجلة، المتميز بسرعة جريانه وعذوبة مياهه، حتى سماه الإغريق "تايكرس"، إذ شبهوه بالنمر، كما يقول بطليموس، وكما أعلمتنا تواريخ أخرى كم كان جسر الموصل وسيلة استراتيجية لانتقال جيوش وحكام وأباطرة وشاهات وخانات وسفراء وأسلحة وفاتحين منذ عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب، حيث عبرت منه جيوش المسلمين نحو كلّ من كردستان وأذربيجان وأرمينيا وكلّ قوقاسيا. كما غرقت في دجلة قوافل وحيوانات وفيلة (كانت تعبره خوضاً بسبب عدم قدرة الجسر على تحمّلها عند الموصل، وكانت هدايا مرسلة من خانات الهند وشاهات إيران للسلطان العثماني)، فضلاً عن أنّ الجسر كان يقام ويرفع بسبب التهديدات والحصارات والحروب التي تعرّضت لها المنطقة، ويكفي أن جسر الموصل قد رفع عندما حاصرها نادر شاه لها عام 1743، فأقام نادر شاه جسراً من قواته، لكي يعبر نحو الموصل التي اندحر عند أسوارها اندحاراً مخزياً، ولم تطأها أقدام جيشه أبداً. ولم يزل انتصار الموصل ذاك يقضّ مضاجع أعدائها.
استمرت أهميّة جسر الموصل عالمياً حتى 1869، عندما فتحت قناة السويس في مصر،
كانت الموصل تمتلك جسراً واحداً على امتداد العصور، والجسر العثماني القديم يتألف من زوارق تصل إلى قناطر طويلة، ثم بنى الإنكليز جسراً أكثر كفاءة من القديم، ثم أسّسوا جسراً حديدياً جلبوه من بريطانيا، وافتتحه الملك غازي في يونيو/ حزيران 1934 وتسمّى باسمه، ثم تبدّل اسمه لاحقاً إلى جسر نينوى ويسمّى اليوم بالجسر العتيق وقد خدم المدينة والإقليم خدمات لا يمكن أن ينساها التاريخ، إذ تأسسّ جسر ثانٍ في الموصل، افتتحه الملك فيصل الثاني في مارس/ أيار 1958، ثم توالى بناء الجسور في الموصل على دجلة في نهايات القرن العشرين: الثالث شمالاً والرابع جنوباً والخامس في الوسط. ويتميّز كلّ منها بجمالياته وروعته، وكان من المخطّط أن يبنى جسر سادس في أقصى الجنوب.
تم تدمير هذه الجسور العظيمة التي كانت رموزاً حضارية ولها جمالياتها تدميراً ثأرياً، ويقال