جسر "الرقة العتيق" بناه الاستعمار ودمّره النظام

18 سبتمبر 2014
امتحن الجسر قدرات السباحين الصغار
+ الخط -
للجسر العتيق، أو "الجسر العتيج" باللهجة المحلية، مذاق خاص في ذاكرة أبناء مدينة الرقة، فالسباحة في ضفة الفرات الشمالية، تحت هذا الجسر، هي أول اختبار حقيقي يجتازه اليافعون، وغالباً ما يحصل ذلك بدون علم الأهل الذين يخشون على أولادهم من الغرق، بينما يتفاخر الأكبر سنّاً بينهم، وهو يلقي بنفسه من فوق الجسر المرتفع، ليعانق مياه الفرات بلونها الفيروزيّ الداكن.

يعتبر غسل الصوف في الضفة المقابلة، حيث الحصى نظيف والعمق منخفض، طقساً موسمياً للنساء الريفيات. بعد الغسل، ينشرن الصوف على أغصان شجر الصفصاف الممتدة على طول الضفة.

ولا يزال بعض المعمرين ممن شاركوا في بناء الجسر، يروون معاناتهم ظروفاً عصيبة، فكانوا يعملون بكدّ طوال أربعة أشهر، المدة التي استغرقها إنشاء ذلك الجسر على يد القوات الإنجليزية العام 1942.

بُني الجسر العتيق، أو جسر "غيت" كما تشير اللوحة الحديدية الصدئة المثبتة تحته، على يد آمر الحملة الإنجليزية التي زحفت من الموصل بقيادة الكومندار وليام سليم، لقتال قوات فيشي الفرنسية التي كانت تسيطر على الرقة آنذاك، حتى استتب الأمر للجنرال ديغول.

بعد رحيل الجنود، صار الجسر العتيق جزءاً من المكان، لا ينفصل عن وعي الأهالي، إذ بات جسراً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي أيضاً، فقد سهل أعمال نقل الغلال الزراعية من الريف الجنوبي إلى سوق المدينة، كما ساهم في تسهيل التواصل على جانبي النهر، لأداء الواجبات في المناسبات الاجتماعية، إذ تربط بين السكان أواصر القرابة العشائرية والتقاليد العربية.

تعتبر السهرة تحت الجسر العتيق نشاطاً محبباً لشباب الرقة، ثمة بعض الصيادين يمضون ليلهم هناك، فترى مجموعات من الأصدقاء يفدون ليلاً مصطحبين نراجيلهم وبعض الأطعمة والمشروبات ليقضوا ليلتهم تحت الجسر، حيث الماء العذب في متناول الأيدي والأرجل، وربما يزيد من حميمية المشهد مجموعة عابرة من الأوز تسبح في الفرات بعكس التيار، بشكل عفوي وجميل، بالإضافة إلى نسائم النهر العليلة وانعكاس أضواء الجسر المقابل، والبيوت على سطح الماء، في منظر ساحر.

وللجسر العتيق مكانة معتبرة في ثقافة السكان، لا بد أن يلحظها من يتعرف على الأغاني الفلكلورية في الرقة، فعلى سبيل المثال تصف أغنية رقيّة مشهد الحبيب الذي يلوّح من أعلى الجسر لحبيبته التي يحرجها الخفر، فلا تجرؤ بدورها على رد تحيته خوفاً من افتضاح حبهما: "من فوق جسر الرقة، سلّم عليّا بيدو، ما اقدرت أرد سلامو، خاف يقولون تريدو".

مؤخراً، دمرت مدفعية النظام جزءاً من الجسر العتيق في الثالث والعشرين من مارس/آذار من هذا العام، وقبلها في الثاني من مايو/أيار العام الماضي، قام بتدمير شقيقه الأكبر، الجسر المعلّق في مدينة دير الزور، كلياً، فنظام الأسد محترف في تدمير الجسور والذكريات.
دلالات
المساهمون