جسد صغير لا يتسع لاسم

22 أكتوبر 2015
+ الخط -
عزيزي الذي لا أعرف اسمه، أنت الذي هناك في ربوع بلادي، تمشي بتعب أو بندم. أيها المشرد المسكين القادم من إرتيريا، أنت الذي لا أعرف اسمه، لكني أعرف عذابه وموته اليومي. كم مرة قتلوك، وجرّدوك من حكايتك الشخصية، كم مرة سحلوا كرامتك إنساناً في شوارع عنصريتهم؟ كم مرة بصقوا قربك، وتجنبوا شارعك، وحذّروا من رائحتك أطفالهم؟ كم مرة رفضوا أن تجلس قربهم في باص أو قطار أو مهرجان، أو حتى مظاهرة ضد عدو مشترك؟ أنت الذي لا أعرف اسمه، أنت الذي هناك، تحترق الآن في شمس بلادي، بلادي التي من حنان وحريق. ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أهو الحليب والشقة والملعب؟ ليتك علمت، قبل مجيئك، أن لملعب أطفالك ثمنا، تدفعه من روح وجودك وإنسانيتك، فأطفال الجيران البيض يرفضون اللعب مع أطفالك، وصاحب السوبرماركت الأبيض يعطيك الحليب لابساً قفازاته، حتى لا يلمس إصبعه ظل إصبعك، وجيرانك في الشقة المقابلة يبدو عليهم الامتعاض، كلما وقفت زوجتك على الشرفة. 

عزيزي الذي لا أعرف اسمه، لكني أعرف عذابه الطويل، وموته اليومي. أعرف كم تحن إلى (هناك)، كما أحن أنا إلى (هناك)، كلانا لاجئ ومنفي. كلانا بعيد عن أرضه، لكن الفرق بيني وبينك أنك اخترت هذا المنفى – الموت، أسرعت إليه، ظننته مهنتك الرغيدة وحليب طفلك، فإذا به مكرهتك الروحية والعاطفية، وعزلتك وشتيمتك، وانسحاقك وخوفك وموتك وضياعك. كان يجب أن تبقى هناك، كان يجب أن تكمل حكايتك هناك، القطيعة التي أحدثتها في قصتك مريعة، والشرخ المميت الذي أوصلك إلى موت حقيقي، كان يمكن تفاديه، لو أنك فقط واصلت العيش هناك، في هواء بلدك أسمرة.
رأيتك في محطة قطارات وباصات بير السبع أمس. أنت أيها الرجل الصغير الذي لا أعرف اسمه، أنت من النحول، بحيث لا يتطابق جسمك مع اسم أو قميص، أو حتى ساعة يد، لا مصانع في العالم تنتج قمصاناً تليق بحجمك، أنت من اللاوجود، بحيث لا يتخيل إنسان أن لك هوية أو بيتاً أو عائلة. كيف بزغت فجأةً في مشهد الصراع بين الفلسطيني القتيل والإسرائيلي القاتل، أيها المنحوس. أعرف أنه كان يجب أن تركض، مع الراكضين، فهي حياتك التي من حقك الدفاع عنها. أعرف، فأنت مطارد ومطلوب للجهتين: الفلسطيني الذي ربما يظنك يهودياً إرتيرياً، أو إثيوبياً. وللإسرائيلي الذي ربما يظنك، وقد (ظنك)، فلسطينياً غاضباً. أيها المفقود الذي لا يبحث عنه أحد، يا هامش الصورة وعابرها المتحطم، يا خطأ التاريخ الأبيض انتبه، ها قد وصلت حكايتك إلى منتهاها. كان يجب أن تنتهي هكذا: موت سريع برصاص يهودي خطأ، ليته يعرف هذا القاتل غير القاصد قتلك، أنك مت ألف مرة أمس، وأنت تقنع صاحبة الروضة التي رفضت تسجيل ابنتك، في روضتها، أن لا ذنب لابنتك في لونها. رأيتك، أيها الصغير المتعب، تركض متعرقلاً بلهاثك، وظلال اليهود البيض الغربيين، بهلع مع عشرات الجنود الإسرائيليين، مصاباً في قدمك برصاصة إسرائيلي مرتعب، ظنك عربياً، ثم رأيتك، وأنت تتلقى الرصاصة تلو الرصاصة، من الشخص المرتعب نفسه، قتلوك بالأقدام والصراخ، لأن بشرتك تحيل على الغريب المخيف الصحراوي، المريض البدائي، قتلتك دولة البيض الغربيين، الدولة التي تسابق الريح إلى نهايتها، بهمجيتها وعنصريتها، (من انتصار إلى انتصار، تواصل إسرائيل طريقها نحو هزيمتها الكبرى). هذا كتبه يهودي متفتح بأفق واسع، وأسلوب حضاري، في إدارة أزمة يهوديته في العالم.
عزيزي الذي لا أعرف اسمه، يا ابن أسمرة، أيها اللاجىء القادم إلى إسرائيل للبحث عن عمل، كم تشبهنا، كم نشبهك، نحن الفلسطينيين، الذين نسينا العالم في اكتظاظ جدول أعماله في قضايا ثقب الأوزون ومحاربة الإيدز ونهاية العالم وحق المثليين والإجهاض، وماء المريخ وجنون البقر، نحن العابرين في الصورة، المطرودين إلى الزوايا. نحن مثلك تماما، أيها الرجل الصغير الذي لا أعرف اسمه.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.