آخرُ همِّ اللاجئين الذين يمرّون بجزيرة ليسبوس اليونانية في طريقهم إلى أثينا، فمقدونيا، فصربيا، فالمجر، فالنمسا.. وصولاً إلى ألمانيا، أن يتمعّنوا باسم هذه الجزيرة، وصلته بالمصطلح الأوروبي للمثلية النسوية، أو أن يلموا بجانب من تاريخها وسير أعلامها. فلا همَّ لهذه الجموع المتدفقة، كما لو كانت في يوم حشْرٍ أرضيٍّ، سوى الوصول إلى أرضٍ مأمونة بأقلّ قدر من الخسائر. فقد أخذ البحر منهم الكثير. دفعوا ضرائب باهظة لـ"بوسيدون"، إله البحر والعواصف، الغاضب دائماً، تاهوا في دروب العالم الشاهد كما لو أنهم في صحراء بلا مَعْلَمٍ أو طريق. ورغم أن لا شاردة إغريقية يمكن أن تشغل بال هؤلاء، الذين اكتظت بهم ثالث أكبر جزيرة في البحر الإيجي، إلا أن هناك شيئاً إغريقياً فيهم. هذا الهبوب الملحمي الذي تبدو عليه جموع اللاجئين المتماوجة أمام الحدود، محطات القطارات، مواقف الحافلات، أمكنة الإيواء المؤقت، كما لو أننا في واحد من أفلام الملاحم التي تشارك فيها حشود كبيرة. هذه تراجيديا حيّة، تحدث أمامنا لحظة بلحظة، في أتمّ صورها. البحر الغضوب، القرابين التي تقدَّم لزيوس في سبيل فتح طريق إلى الأمان. ليس الطعام ولا الشراب، لا الصحة ولا التعليم، فقط الأمان على الأنفس، أو ما تبقى منها بعدما أخذ "بوسيدون" ما أخذ. وما سلبه منهم، قبله، "السايكلوب"، ذو العين الواحدة المدورة، المنهمك في صنع أسلحة الصواعق والبراميل المتفجِّرة.
أرض السايكلوب
فكلُّ شيء بدأ هناك: في أرض السايكلوب، المسخ، الذي ابتكره "زيوس" من ذرية "بوسيدون" ليحصل على أسلحة خاصة بالآلهة. أسلحة دمار عشوائي. فكان هؤلاء المسوخ الذين يكدّون بأشكالهم المرعبة، بلا روح ولا نفس ولا معيار أخلاقي، على صنع سلاح الدمار العشوائي. وعلى عكس "عوليس" الذي فقأ عين "السايكلوب"، بعدما قال له إنه يدعى "لا أحد"، يفرُّ اللاجئون من "إيثاكا" التي تحولت خراباً. "عوليس" يفقأ عين "السايكلوب" ويعود إلى "إيثاكا"، بعد هدنة مع "بوسيدون" (أبرمتها الآلهة أثينا) فيما اللاجئون يدخلون في التيه العوليسي الطويل.
ضاقت جزيرة ليبسوس، التي تبلغ مساحتها نحو 630 ميلاً مربعاً وعدد سكانها قرابة 90 ألف نسمة، بما فاض به البحر الإيجي من لاجئين جاؤوا بقوارب مطاطية صغيرة يمكن أن تنقلب، كما يحدث يومياً، عند الاصطدام بأي موجة كبيرة. لم تعد تستطيع أن تستوعب المزيد. فقد بلغ عدد آخر موجة وصلتها نحو 15 ألف لاجئ معظمهم سوريون. ولأنَّ البحر الإيجي كان هادئاً، في الأسابيع الأخيرة، فقد وصل إلى البرّ اليونانيّ ما يقدّر بنحو ربع مليون لاجئ. للسوريين في الجزيرة أولوية التسجيل على غيرهم من اللاجئين، بسبب وضعهم الطارئ، ما خلق توترات بينهم واللاجئين القادمين من العراق وأفغانستان. وقد عمد بعض هؤلاء إلى تسجيل أنفسهم كسوريين لتكون لهم أولوية الخيمة أو العبَّارة أو وجبة الطعام!
جزيرة سافو
ولكن هذه جزيرة سافو. إنها أرض قديمة للشعر والحبّ والغناء، طيَّر صيتها أكبر مؤرخي العالم، في حينه، هيرودس، وتبعه في تقصّي فرادتها كثيرون. أما سافو التي قال عنها إفلاطون إنها الربَّة العاشرة للشعر، فهي ابنة "متلين"، عاصمة الجزيرة الصغيرة. ولدت بين هذين التاريخين: 630 قبل الميلاد، أو 612 قبل الميلاد. ولا يعرف تاريخ وفاتها، بالضبط، غير أنه قد يكون في عام 570 ق. م. كتبت، بحسب شهادات تاريخية غير مؤكدة، نحو تسع مجموعات شعرية لم يبق منها سوى قصيدة واحدة كاملة، إلى عشرات الشذرات التي خلقت، مجتمعة، انطباعاً بأننا حيال شاعرة عظيمة، لم يكن ليبقيها التاريخ، الذكوري بطبعه، لولا تلك الفرادة التي تحلّت بها في عالم يعج بالشعراء الذكور. هذا، في ذاته، يكفي للقول إن شهادة أفلاطون فيها لم تكن في غير محلها، ولا الذين وضعوها في مرتبة أعظم شاعر إغريقي، بل ربما أعظم شاعر في تاريخ البشرية: هوميروس.
لشعر سافو خصوصية مستمدة من جنس مؤلفته. إنها تلك الرقة والبساطة والرؤية الصافية التي تتحلى بها قصائدها. ليس في شعرها، الذي وصل إلينا، ملاحم. ولا أساطير. لا آلهة. ولا حروب. رغم مرور أسماء عَلَمٍ على هذا الصعيد، غير أن الشعر نفسه، يكاد يكون يومياً، ينتمي، في خفّته وبساطته، إلى ما يشبه مشاغل زمننا، وكل زمن إنساني. ففي قلب كل شعر كبير هذه المعاصرة التي تقبض على نوازع ومشاغل إنسانية عابرة، على الأغلب، للتاريخي الذي يحيل إلى فترة ومكان بعينهما، ويمكن إدراجه في مواد التوثيق أكثر ممّا يمكن إدراجه في مصاف الإبداع القادر على النجاة من فخِّ التاريخ.
صحوة على التاريخ
فجأة، ودفعة واحدة، صحت جزيرة ليسبوس، على ما يجري في الجانب الآخر من هذا البحر المشترك، بحر الحضارات والصراعات القديمة ـ المتجددة. أخرجها أحفاد الذين منحوا أثينا الحرف والأبجدية والعجلة من غفوتها المتكئة على صيت شاعرة عظيمة، قيل إنها مثلية جنسياً، إلى الطرق العنيف على حديد التاريخ. صارت هذه الجزيرة التي كانت ملجأً آمناً لنوع آخر من اللاجئين، قل اللاجئات، ممراً للهاربين من سماوات تمارس فيها الطائرات الحربية بلطجة، بلا رادع، على بشر يفرّون من مكان إلى آخر من دون أي نوع من الحماية. هكذا عادت المصائر المشرقية إلى ليسبوس، ولو على نحو مختلف عمّا عرفته سابقاً. كانت ليسبوس هي التي تأتي إلى المشرق لتبيع وتشتري وتحاور وتتحاور. نلمس هذا في عائلة سافو. بل في حياتها الشخصية. لشاعرة الجزيرة ثلاثة إخوة أكبرهم يدعى تشاركوسيس، وبمجرد ذكر اسمه يحضر طيف "دوريشا"، الراقصة المصرية التي فُتن بها أثناء زيارة عمل له إلى "نقراطيس"، المستوطنة الإغريقية ـ المصرية على أحد فروع النيل. كانت "نقراطيس" التي أنشئت قبل الإسكندرية بقرنين، مدينة إغريقية شجَّع قيامها فرعون مصر أبسماتيك الأول، من الأسرة السادسة والعشرين، لتكون جسر تواصل تجاري وثقافي بين اليونان ومصر. إلى هذه المدينة جاء شقيق سافو الأكبر. رأى الراقصة المصرية في حفلة. وقع في غرامها. حرَّرها من العبودية وأخذها إلى ليسبوس. هناك وقعت خلافات مع أخته سافو التي استنكرت أن يتزوج أخوها، ابن العائلة الأرستقراطية، راقصة، من طبقة العبيد. صار لهذه الراقصة، التي لم تعجب سافو، شعبية كبيرة في الجزر اليونانية، بل في البر اليوناني، وصلت إلى حد القول إنها كانت وراء بناء الهرم الثالث في مصر!
وقد حاول هيرودس، الذي يعرف مصر حق المعرفة، ووصفها بأنها "هبة النيل"، أن يفنِّد هذه الحكاية الخرافية بكل ما أوتي من سلطة معرفية، ولكنه لم يستطع.
لم تعد "نقراطيس" موجودة. إنها تدعى اليوم "كوم جعيف"، من أعمال "إيتاي البارود"، في محافظة البحيرة.