28 أكتوبر 2024
جزيرة الورّاق.. السّماسرة ضد الفقراء
شهدت جزيرة الورّاق مواجهات عنيفة بين الشرطة المصرية والأهالي، على إثر هدم ثلاثة منازل. وقد جدّد مشهد الحصار الأمني، وتقدم معدات الهدم فجرا، مخاوف السكان من خطر التهجير والإخلاء القسري الذي طاول بعض المناطق، سواء كانت تلك المناطق المتميزة جزرا نيلية، أو أماكن قريبة من وسط العاصمة.
ليس الهجوم الأخير على الورّاق المحاولة الأولى لإخلاء الجزيرة، فالورّاق وجزيرتا القرصاية والدهب وغيرها من المناطق المتميزة شكلت هدفا للمستثمرين، وتسعى الدولة إلى استغلالها، بوصفها أصولا مملوكة لها، استولى خارجون عن القانون عليها. ومن هنا، ليست مخططات الإخلاء وإعادة تشكيل خريطة ملكية الأراضى مجرد خطط للتنسيق والتخطيط العمراني، فهي تعكس أيضا الانحيازات والمصالح، كما ترتبط عملية نزع الملكية، أو منح وتخصيص الأراضي بالسياسة الاقتصادية التي تخدم من يضعها، وتحقق مكاسب للسلطة، والفئات القريبة منها.
توسعت الدولة، منذ بداية التسعينيات، في تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي في المجالين، الزراعي والصناعي. ومع حكومات كمال الجنزوري وعاطف عبيد، تصاعدت وتيرة بيع مصانع القطاع العام، واستمرت الدولة، في عقد التسعينيات، في تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي في المجال الزراعي، فتم تعديل قانون الإصلاح الزراعي (سبتمبر/ أيلول 1952) بالقانون رقم 96 لسنة 1992، والذي بموجبه نزعت الدولة أراضي الإصلاح الزراعي من الفلاحين، لصالح فلول الإقطاع العائد، واندلعت إثر ذلك مواجهات حادة بين الدولة والفلاحين. وخلال نهاية عقد التسعينيات، وضعت الدولة عدة تصوراتٍ لإدارة أصول الدولة وممتلكاتها، ومنها أراضي جزر النيل، وطرح النهر في محاولة لتوفير عوائد مالية، خصوصا وأن تلك الأراضي تمثل مطمعا لكبار المستثمرين في قطاع الإنشاء والتشييد.
وخلال السياق الاقتصادي الحالي، والذي يتبنى التحرير الاقتصادي الكامل، والمنحاز لقوى
رأسمالية متوحشة، والسياق السياسي الذي تمثل فيه الاستثمارات العربية سنداً سياسياً واقتصاديا للسلطة، يمكن فهم المخططات العمرانية والاستثمارية التي يقوم بعضها على إخلاء الأراضي المتميزة التي يشغلها الفقراء. وسبق أن نشرت الصحف، في شهر يونيو/ حزيران الماضي، إن "رئاسة الجمهورية" كلفت وزارة الإسكان وهيئة التخطيط العمراني بإحياء مخطط تطوير الجزر النيلية الذي تم إعداده عام 2010. كما أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي، في كلمة ألقاها أول شهر يوليو/ تموز الجاري إلى ضرورة إخلاء الجزيرة، وتحدث بشكل مستتر عن مخطط نقل المقابر إلى خارج القاهرة، بوصف أن أراضي المقابر ملك للدولة، وتم الاستيلاء عليها، وهو المخطط الذي سبق وأعلن عام 2009.
على جانب آخر، عبرت المواجهة بين أهالي الجزيرة والحكومة عن مظهرين من مظاهر سياسة الدولة تجاه الفقراء، أولها فكرة الاستبعاد الاجتماعي المقصود الذي يمارس على سكان الأطراف والمناطق الفقيرة، والذين تعرّضوا لمخططات الإخلاء التي وضعتها هيئات التخطيط العمراني. وقد برزت سياسة الإخلاء والتهجير القسري واضحة مع رئيس الوزراء، أحمد نظيف، والذي مثلت حكومته (2004-2010) التوحش الرأسمالي، وتزاوج الثروة والسلطة بشكل فج، حيث شملت وزراء مستثمرين خططوا وشرعوا لمصالحهم، ومنها مشروعات إسكانية وعقارية ومخططات عمرانية وسياحية.
ومن بين المعارك التي شهدتها مصر بين الفقراء والدولة ضد سياسة الإخلاء والتهجير القسري من 2005 إلى 2010 مواجهة أهالي الكبش والدويقة وعزبة خير، وكذلك كفر العلو ومثلث ماسبيرو، وهي معارك مترابطة، أثبت فيها أهالي المناطق الشعبية مقاومتهم مخططات شركات الاستثمار العقاري، واستطاعت بعض المناطق فرض مطالبهم، حيث رفعت شعارات التطوير، بدلا من التهجير، واستطاع بعضهم الحصول على تعويضاتٍ أو سكن بديل، وحصل آخرون على سكن في منطقته مع بعض التطوير، مثل بعض أهالي قلعة الكبش.
الظاهرة الثانية التي تتضح من قضية جزيرة الورّاق، وغيرها من المناطق المستهدفة، أن الصراع الاجتماعي ماثل بوضوح أمامنا، وتأخذ الدولة فيه صف المستثمرين وكبار الرأسماليين (محليين كانوا أو أجانب)، وتساهم في تنفيذ مصالح هؤلاء على حساب سكان الأطراف والمناطق الفقيرة، بدعاوى تنفيذ القانون، والتي ثبت بطلانها في حالاتٍ عديدة، كحالة جزيرة الورّاق التي تتجاوز مساحتها 1600 فدّان، الجزء المملوك لهيئات الدولة (وزارة الزراعة والأوقاف) يبلغ 60 فدّانا، يستأجرها الأهالي، ويدفعون بانتظام حق الانتفاع للدولة (الإيجار). أما القول إن أراضي الجزيرة غير رسمية، أو حديثة النشأة، نتاج وضع اليد، فإنه قول باطل،
فهناك سكان على الجزيرة من أكثر من مائة عام بأوراق ثبوتية، كما أن منازل أهل الجزيرة لم تبن في غيبة الدولة التي تنكرهم الآن، وهي من مدّت للجزيرة خدمات المياه والكهرباء والتليفون والصحة والتعليم. وبخصوص الشعار الذي تتبناه الأجهزة الرسمية، وترده كتيبة التطبيل العاملة في فضائيات الإعلام المصري حول تنفيذ القانون وإزالة التعديات، فإن لدى أهل الجزيرة أحكاما قضائية وأوراقا تثبت ملكيتهم مساكنهم، ويسدّدون مقابل حق الانتفاع للأراضي التي يزرعونها، ناهيك عن أن فلسفة القانون هي العدل ومراعاة حقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في السكن، وأن الدولة التي تشرع قوانين تمنح المستثمرين تسهيلاتٍ وأراضي، يمكنها تقنين أوضاع الفقراء من سكان الجزيرة الذين ليست لديهم أوراق تثبت ملكيتهم.
وإذ كانت الدولة تريد تطوير المنطقة، فلا بد أن يكون ذلك بمشاركة أهالي الجزيرة ودراسة احتياجاتهم، عبر حوار مجتمعي حقيقي، يمثل كل الفئات التي تعيش على الجزيرة من سكان ومزارعين، ويأخذ في الاعتبار تطبيق سياسات عادلة فيما يخص ملكية الأراضي والحق في السكن، لكن الحال يقول إن السلطة تستخدم فكرة القانون كما تريد، وبما يخدم مصالح فئات ضيقة، وتحدّد بسطوتها وقوتها المادية والمعنوية من يملك ماذا، ومن لا يملك، وتمنح وتحظر كما تشاء، وتزيد إثراء ونفوذ وسيطرة من يساندونها محليا وإقليما، وتساندها في ذلك كتيبةٌ من الإعلاميين والمثقفين الذين باعوا ضمائرهم، وساندوا عنف السلطة ونهب المستثمرين. إننا في مشهد جزيرة الورّاق، نرى بوضوح قصة الصراع على الأرض والموارد.
وإذا عدنا إلى سؤال الملكية، فإننا نتصوّر أن رد أثرياء النهب سيصبح منقوصا ومأزوما، وإذا كانوا يسألون عن ملكية أراضي الجزيرة، فتعالوا نمد الخط على استقامته، ونسال بعضهم كيف جمعوا ثرواته العقارية، وأرضيهم الممتدة، وما هي إثباتات الملكية لديهم، وما تاريخ ملكيتهم هذه الثروات، هل ولدوا بعقود ملكية لتلك المساحات الشاسعة. دعونا نعرف من يستولي على أراضي الدولة وثروات الشعب، ومن يمتلك ماذا ومن لا يمتلك. وبهذه الطريقة، تكون الأسئلة صحيحة ومؤثرة، بدلا من الأسئلة المقلوبة التي توجه إلى الفقراء.
ليس الهجوم الأخير على الورّاق المحاولة الأولى لإخلاء الجزيرة، فالورّاق وجزيرتا القرصاية والدهب وغيرها من المناطق المتميزة شكلت هدفا للمستثمرين، وتسعى الدولة إلى استغلالها، بوصفها أصولا مملوكة لها، استولى خارجون عن القانون عليها. ومن هنا، ليست مخططات الإخلاء وإعادة تشكيل خريطة ملكية الأراضى مجرد خطط للتنسيق والتخطيط العمراني، فهي تعكس أيضا الانحيازات والمصالح، كما ترتبط عملية نزع الملكية، أو منح وتخصيص الأراضي بالسياسة الاقتصادية التي تخدم من يضعها، وتحقق مكاسب للسلطة، والفئات القريبة منها.
توسعت الدولة، منذ بداية التسعينيات، في تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي في المجالين، الزراعي والصناعي. ومع حكومات كمال الجنزوري وعاطف عبيد، تصاعدت وتيرة بيع مصانع القطاع العام، واستمرت الدولة، في عقد التسعينيات، في تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي في المجال الزراعي، فتم تعديل قانون الإصلاح الزراعي (سبتمبر/ أيلول 1952) بالقانون رقم 96 لسنة 1992، والذي بموجبه نزعت الدولة أراضي الإصلاح الزراعي من الفلاحين، لصالح فلول الإقطاع العائد، واندلعت إثر ذلك مواجهات حادة بين الدولة والفلاحين. وخلال نهاية عقد التسعينيات، وضعت الدولة عدة تصوراتٍ لإدارة أصول الدولة وممتلكاتها، ومنها أراضي جزر النيل، وطرح النهر في محاولة لتوفير عوائد مالية، خصوصا وأن تلك الأراضي تمثل مطمعا لكبار المستثمرين في قطاع الإنشاء والتشييد.
وخلال السياق الاقتصادي الحالي، والذي يتبنى التحرير الاقتصادي الكامل، والمنحاز لقوى
على جانب آخر، عبرت المواجهة بين أهالي الجزيرة والحكومة عن مظهرين من مظاهر سياسة الدولة تجاه الفقراء، أولها فكرة الاستبعاد الاجتماعي المقصود الذي يمارس على سكان الأطراف والمناطق الفقيرة، والذين تعرّضوا لمخططات الإخلاء التي وضعتها هيئات التخطيط العمراني. وقد برزت سياسة الإخلاء والتهجير القسري واضحة مع رئيس الوزراء، أحمد نظيف، والذي مثلت حكومته (2004-2010) التوحش الرأسمالي، وتزاوج الثروة والسلطة بشكل فج، حيث شملت وزراء مستثمرين خططوا وشرعوا لمصالحهم، ومنها مشروعات إسكانية وعقارية ومخططات عمرانية وسياحية.
ومن بين المعارك التي شهدتها مصر بين الفقراء والدولة ضد سياسة الإخلاء والتهجير القسري من 2005 إلى 2010 مواجهة أهالي الكبش والدويقة وعزبة خير، وكذلك كفر العلو ومثلث ماسبيرو، وهي معارك مترابطة، أثبت فيها أهالي المناطق الشعبية مقاومتهم مخططات شركات الاستثمار العقاري، واستطاعت بعض المناطق فرض مطالبهم، حيث رفعت شعارات التطوير، بدلا من التهجير، واستطاع بعضهم الحصول على تعويضاتٍ أو سكن بديل، وحصل آخرون على سكن في منطقته مع بعض التطوير، مثل بعض أهالي قلعة الكبش.
الظاهرة الثانية التي تتضح من قضية جزيرة الورّاق، وغيرها من المناطق المستهدفة، أن الصراع الاجتماعي ماثل بوضوح أمامنا، وتأخذ الدولة فيه صف المستثمرين وكبار الرأسماليين (محليين كانوا أو أجانب)، وتساهم في تنفيذ مصالح هؤلاء على حساب سكان الأطراف والمناطق الفقيرة، بدعاوى تنفيذ القانون، والتي ثبت بطلانها في حالاتٍ عديدة، كحالة جزيرة الورّاق التي تتجاوز مساحتها 1600 فدّان، الجزء المملوك لهيئات الدولة (وزارة الزراعة والأوقاف) يبلغ 60 فدّانا، يستأجرها الأهالي، ويدفعون بانتظام حق الانتفاع للدولة (الإيجار). أما القول إن أراضي الجزيرة غير رسمية، أو حديثة النشأة، نتاج وضع اليد، فإنه قول باطل،
وإذ كانت الدولة تريد تطوير المنطقة، فلا بد أن يكون ذلك بمشاركة أهالي الجزيرة ودراسة احتياجاتهم، عبر حوار مجتمعي حقيقي، يمثل كل الفئات التي تعيش على الجزيرة من سكان ومزارعين، ويأخذ في الاعتبار تطبيق سياسات عادلة فيما يخص ملكية الأراضي والحق في السكن، لكن الحال يقول إن السلطة تستخدم فكرة القانون كما تريد، وبما يخدم مصالح فئات ضيقة، وتحدّد بسطوتها وقوتها المادية والمعنوية من يملك ماذا، ومن لا يملك، وتمنح وتحظر كما تشاء، وتزيد إثراء ونفوذ وسيطرة من يساندونها محليا وإقليما، وتساندها في ذلك كتيبةٌ من الإعلاميين والمثقفين الذين باعوا ضمائرهم، وساندوا عنف السلطة ونهب المستثمرين. إننا في مشهد جزيرة الورّاق، نرى بوضوح قصة الصراع على الأرض والموارد.
وإذا عدنا إلى سؤال الملكية، فإننا نتصوّر أن رد أثرياء النهب سيصبح منقوصا ومأزوما، وإذا كانوا يسألون عن ملكية أراضي الجزيرة، فتعالوا نمد الخط على استقامته، ونسال بعضهم كيف جمعوا ثرواته العقارية، وأرضيهم الممتدة، وما هي إثباتات الملكية لديهم، وما تاريخ ملكيتهم هذه الثروات، هل ولدوا بعقود ملكية لتلك المساحات الشاسعة. دعونا نعرف من يستولي على أراضي الدولة وثروات الشعب، ومن يمتلك ماذا ومن لا يمتلك. وبهذه الطريقة، تكون الأسئلة صحيحة ومؤثرة، بدلا من الأسئلة المقلوبة التي توجه إلى الفقراء.