01 نوفمبر 2024
جريمة المنيا.. مسؤولية عامة
اعتدنا، عند كل حدث جلل في منطقتنا العربية، أن تطل نظرية المؤامرة برأسها لوضع تفسيرات لهذا الأمر، غالباً ما تكون على هوى مطلقها، أو في محاولة لتسييس الحدث وتسخيره لخدمة أجندات أو أفكار معينة، إلى درجة أن الحدث نفسه وأبعاده يختفيان عن التداول، لتبقى التحليلات وإلقاء التهم الجاهزة وتحميل المسؤوليات.
يمكن إسقاط هذا الأمر على الجريمة المروّعة التي وقعت أول من أمس في المنيا، وراح ضحيتها نحو 30 مصرياً من الطائفة القبطية، فقبل أن تجف دماء هؤلاء المغدورين في تلك المنطقة الصحراوية، كانت التحليلات تنهال بشأن الإخفاقات الأمنية والتوظيفات الممكنة للجريمة في السياسات الداخلية للنظام المصري. وقبل أن يتم نقل الضحايا إلى المستشفيات، كانت التنبؤات بإمكان أن تكون الجريمة تغطيةً على الفشل الداخلي، وخصوصاً الاقتصادي، لنظام عبد الفتاح السيسي، ووسيلة للحصول على تفويض إضافي يخوّله الاستمرار في الحكم بقبضة من حديد.
بين هذا التحليل وذاك، كانت تطل عبارات المواساة للضحايا وذويهم، من دون الإشارة حقيقةً إلى المسؤول عن الجريمة، ومن يقف وراءها. والأمر هنا لا يقف عند "داعش" الذي تبنى المجزرة أمس في بيان، بل أبعد من ذلك، ربما إلى الحاضنة الاجتماعية التي أفرزت هذه الظواهر، وجعلتها نوعاً ما مقبولةً في أوساط اجتماعية واسعة. حاضنة لها أبواقها الإعلامية والتي تخرج على القنوات المصرية الكبرى، وتطلق الفتاوى على الملأ من دون حسيب ولا رقيب. فقبل فترة وجيزة، على سبيل المثال، خرج الشيخ الأزهري، عبد الله رشدي، وهو إمام مسجد، في أحد البرامج التلفزيونية المتابعة بكثافة، ليفتي بأن المسيحيين كفار بنص القرآن، وقال بالحرف "ده مش كلامي... ده كلام القرآن أي واحد غير مسلم فهو كافر".
أثار كلام الشيخ الأزهري كثيراً من الجدل وردود الفعل في أوساط المثقفين المصريين، غير أن ذلك لا يعني أنه لا يعبر عن قناعة موجودة لدى شرائح واسعة في المجتمع، ليس المصري وحسب، بل العربي والإسلامي بشكل عام. ولا يقف الأمر أيضاً عند حدود المسيحيين، بل ربما كل رأي مخالف أو صاحب نظرة مختلفة يمكن تصنيفه ضمن هذه الخانة التي تخوّل "المؤمنين" تحليل دمه والاقتصاص منه، مستندين إلى فتاوى متوفرة في كتب كثيرة منتشرة في المكتبات وعلى الأرصفة في مدن عربية وإسلامية عديدة.
الأنكى أن الشيخ نفسه، وفي البرنامج نفسه، أعلن أن الأزهر لا يستطيع تكفير "داعش" لأنهم مسلمون، وبذلك قد "يفتح باب التكفير في المجتمع". أيضاً لا يقف الأمر عند هذا الشيخ بحد ذاته، وهو لا يعبر عن موقف شخصي، فمشيخة الأزهر، وفي أكثر من مناسبة، رفضت تكفير "داعش"، حتى أن شيخ الأزهر أحمد الطيب قال إنه "لكي تكفر شخصاً يجب أن يخرج من الإيمان وينكر الإيمان بالملائكة وكتب الله، ويقولون: لا يخرجكم من الإيمان إلا إنكار ما أدخلت به". بهذا المعنى فإنهم لا يزالون، في نظر الأزهر، فئة من "المؤمنين" ويقاتلون "الكفار"، بحسب التفسير الأزهري نفسه.
مؤكّد أن المشكلة الأساس هنا، في هذا التفكير المعمّم والمتغلغل في المجتمعات العربية والإسلامية، والذي سمح لـ"داعش" وغيره بالتمدّد والبقاء طويلاً، وتفريخ تنظيمات مماثلة أو أشد إجراماً لاحقاً. نظرية المؤامرة والتحليلات السياسية غير مخطئة بالكامل، غير أنها ليست لب المشكلة، والتي تتطلب فعلياً محاولة ضغط لتجديد الفكر الديني الإسلامي، وهو ما لا يزال دونه عقبات كثيرة، وفي مقدمتها المؤسسات الدينية الرسمية.