وقع في الرابع من أغسطس/ آب انفجار هائل في مرفأ بيروت، وهو المرفأ البحري الرئيسي في لبنان، وأدى إلى خسائر بشرية ومادية هائلة. لكن، ماذا عن الناجين؟ هل ستعود حياتهم إلى طبيعتها؟
الأثر الذي تركه انفجار بيروت على الناجين منه لا يزول سريعاً، وربما لا يزول أبداً. فالانفجار غيّر معالم المدينة وقتل أحلام كثيرين وباتت الهجرة هي طموحهم الأكبر. تقول الناجية فدوى غدار: "الهجرة من لبنان، هي أول ما فكرت به وأنا أمسح الدماء عن قدمي. احتفظت بالصورة كي أتذكر دائماً أن لا مكان لي في هذا الوطن، أنا التي تناضل كي تبني أسرة مع من تحب. فقدت الأمل تماماً، هذه الأرض لا تمنحنا أقل حقوقنا بالعمل والعيش الكريم والأمن والأمان، فالهجرة هي الحلّ بالرغم من صعوبتها". تتابع: "لا يجب أن أعيش... هو شعور قاتل بالذنب، فأن تنجو من هذا الحادث فيما مات آخرون في المكان نفسه، يولّد شعوراً قاتلاً بالذنب: لماذا هم؟ وعندما أخبر من هم حولي بالأمر يجيبون بأنّه نصيب. لكنّ هذا الجواب لا يشفيني من شعور الذنب الذي ما زلت أشعر به حتى اليوم". تتابع: "ما أشعر به اليوم هو أكثر من إحباط... أشعر أنّ المطلوب ألا يتوقف الحداد، فلا نحتاج إلى تعويض بل انتقام أسود... كيف يستطيع الناس الاستمرار بحياتهم ونحن ما زلنا ضحايا هذا الانفجار؟ غضبي امتد إلى عملي، وكنت سأفقد حياتي وأنا أعمل، إذ لا قوانين تحدد أوقات العمل في الشركات الخاصة، فهل ندفع حياتنا ثمناً لهذا التفلت في ظلّ غياب فرص العمل؟".
تؤكد الاختصاصية في العلاج النفسي، ريمي الفغالي، أنّ معظم الناجين من كارثة يمرّون بمراحل نفسية متصاعدة، تبدأ من حالة النكران، فقد يعي الناجي من الحادثة تماماً ما حدث، ويدرك حجم المصيبة لكنّه في البداية يرفض نوعاً ما تقبّلَ ما حدث ويميل للقول إنّه بخير والأمور على ما يرام. تضيف أنّ "هذه المرحلة لا تطول، ويخالج الناجي من الحادثة بعدها شعور بالغضب العارم إزاء ما حصل، ومن قد يكون المسؤول عنه. وقد يشعر الناجون من الكارثة بالذنب، لأنّهم نجوا فيما تأذى غيرهم بشكل خطير، أو قضوا بالحادثة". وتقول الفغالي إنّ الناجي من كارثة كهذه قد يدخل في مرحلة "القلق ما بعد الصدمة" التي تظهر آثارها من خلال أعراض متعددة، أبرزها الأوجاع الجسدية، مثل آلام المعدة، وضيق التنفس، وتسارع النبض، والارتجاف، والغثيان وغيرها. كذلك، قد تظهر من خلال نوبات البكاء والصراخ، وقد يصبح الفرد عدوانياً بعض الشيء. هذه الأعراض كلّها، إذا استمرت ولم تعالج، قد تتفاقم وتؤدي إلى إصابة صاحبها بحالة اضطراب ما بعد الصدمة، وقد تستمر آثارها لسنوات طويلة. ومن بين تلك الآثار، خلل في العلاقات الاجتماعية وانعزال عن المحيط الاجتماعي، والاكتئاب، واليأس، وعدم القدرة على السيطرة على ردود الفعل، واللجوء إلى تعاطي المواد المخدرة والكحول.
ملاك أيوب صودف تواجدها في شارع مار مخايل، داخل سيارتها، لحظة الانفجار. تقول: "هذه اللحظات التي عشتها غيرت ما مررت به على مدى ثلاثين عاماً. هذه الحادثة أفقدتني الشعور، فلم أعد أشعر بشيء من الحزن أو الفرح أو حتى الذنب. أنا فقط أشكر الصدفة التي أنقذتني من الموت، مع صديقتي". تضيف: "أنا اليوم عاطلة من الحياة تماماً، فلا أخرج من المنزل، ولا ألتقي بأحد إلا نادراً جداً. نومي متقطع، ولا رغبة لديّ في شيء سوى أن أبقى بالقرب من أمي وأفراد عائلتي الذين أشعر الآن بأنّي في حاجة إليهم جميعاً". وتتابع: "نحتاج إلى الوقت كي تعود الحياة إلى طبيعتها. مررنا في السابق بأزمات عدة، واستمررنا، أنا أحبّ الحياة وأحب أن أعيش كلّ تفاصيلها، لكنّني اليوم حزينة جداً على هذه المدينة. مع ذلك، سنعود إلى الحياة، فالأمل دائماً موجود كي نستمر".
نسيم الزويني ناجٍ آخر من كارثة انفجار مرفأ بيروت. يقول: "كلّ ما فكرت فيه هو كيفية مساعدة الناس. لم أعد أذكر ما الذي حصل معي شخصياً، لكنّي ما زلت أذكر كل ما رأيت. باختصار، نظرتي إلى الحياة لم تتغير، لكن أصبح لديّ إصرار أكبر لمواجهة الفساد، وأن أستمر في القتال لتغيير الوضع، كي نحيا بكرامة، وأن ننتقم من كلّ مسؤول له يد في هذه الجريمة. دخل المجهول إلى بيوتنا وهدمها وقتل عدداً منا ودمر أحلامنا. بتّ على يقين أنّ من الضروري القول دائماً لمن نحبهم إنّنا نحبهم". يضيف: "يومياتي اختلفت. لست بخير. أمضي الوقت في مساعدة الناس وسماع أخبارهم عمّا حصل، فأبكي في بعض الأحيان، لكنّي لم أفقد الأمل، بل يمكنني الاستمرار. أنا مغرم بهذه المدينة، ولديّ المقومات كي أبقى فيها، وحال المغتربين ليست أفضل، خصوصاً من رحل مجبراً".
تشير الفغالي إلى أنّ تأثير الصدمة يظهر على الأشخاص من خلال أعراض نفسية وجسدية. ومن الأعراض النفسية اليقظة المفرطة، أي بقاء الفرد متنبهاً لما حوله ومترقباً أيّ خطر قد يحدث، ومنها الرجوع بالذاكرة إلى الحادثة بشكل مستمر والشعور بالأحاسيس نفسها التي عاشها وقت الحادثة أو في أعقابها مباشرة، كما تقلّب المزاج والمشاعر بسرعة، ومنها أفكار سلبية تسيطر على الشخص. أما الأعراض الجسدية، فتتمثل بالأرق والاضطراب الغذائي والصداع والإصابة ببعض الأمراض والشعور بالتعب والخمول. وفي حال استمرت الأعراض عدة أشهر، وزادت حدتها، فباتت تؤثر في الحياة الاجتماعية والمهنية للفرد، يصبح من الضروري أن يلجأ لاختصاصي نفسي، من أجل مساعدته في تخطي هذه المرحلة والتصالح معها ومع نفسه.
تضيف الفغالي أنّ درجة التأثر تختلف من فرد إلى آخر، مع اختلاف التاريخ النفسي. والأمر مرتبط بمدى استقرار الحالة النفسية قبل الحادثة، كما يكون التأثير أكبر لدى من طاولته أضرار كبيرة أو خسر أفراداً من عائلته، أو من لديه أشخاص مفقودون، ويكون أكبر أيضاً لدى من رأى مشاهد قاسية، من جثث ومصابين، وغير ذلك.