يصل جبُّور الدويهي المقهى قبل موعد المقابلة بقليل، مرتدياً قميصاً وجاكيت وبنطلون بألوان ترابية أنيقة. ينحرف عن الطاولات ورائحة القهوة وأحاديث الجالسين، ليدُسَّ قامته الطويلة بين رفوف مكتبة مجاورة؛ يثبت نظارته الصغيرة فوق وجهه، ويتفرّس في المجلّات الأدبية والكتب. ليس مستبعداً أن يكون عدد من رواياته يتوسط أرفف الكتب التي ينظر إليها، هو الذي، مع صدور آخر أعماله، "حي الأميركان" (دار الساقي)، يملك في رصيده السردي ست روايات ومجموعة قصصية، إضافة إلى قصة طويلة للأطفال. في غضون دقائق، ينتبه الدويهي إلى أن موعد المقابلة قد حان، فيجلس ويبدأ الحوار.. يبدأ الكلام من اللغة.
استطاع الدويهي أن يصنع للغته الروائية شخصيةً تمايزها. من أين تأتي لغته؟ "للأمر جذور تربوية"، يجيب الكاتب، الذي نشأ في مدرسة فرنسية كان أساتذتها يولون اللغة العربية اهتماماً كبيراً. "لم يكن ثمة أي تساهل فيما نكتب" يوضح. كان للعربية هيبة واحترام عظيمان، وكان على جبور التلميذ ألا يكرر ويعيد، وأن يهتم بالإيقاع والمتانة والتنويع. ومقابل هذا الاعتبار الصارم للغة العربية، فقد أفاد من الفرنسية باعتبارها لغة ضد البلاغة. "الفرنسية تساعد المرء على التخلص من الحشو واللغو في نصه"، يقول صاحب "شريد المنازل".
على أي حال، فإن بداية صاحب "الموت بين الأهل نعاس" في السرد لم تكن من هنا. "لقد جاءت كتابتي من مكان آخر كلياً. من الطريق، الأهل، من الأصدقاء والأم". يعتبر الدويهي أن صوته الروائي هو مزيج من احترام اللغة ومتانتها ومحاولة إبقائها مستقيمة، ويزيد على ذلك الهوى باللغة المحكية. "أحاول أن أتبع النزعة المحكية تماماً في أول كتابة. أرمي الكلام على عواهنه، وبعد ذلك أصقل المادة". ثم يستدرك: "أنت لن تقرأ عبارة "على عواهنه" في أيٍّ من رواياتي، مثلاً".
يقرأ الدويهي، أستاذ الأدب الفرنسي في "الجامعة اللبنانية"، بلغة موليير أكثر مما يقرأ بالعربية، وقد كتب فيها أيضاً قصته الموجهة إلى الأطفال بعنوان "روح الغابة". هذا التنقل اليومي بين لغتين يلعب دوراً في خياراته اللغوية وخطوطه الروائية، حتى لتبدو كأنها نتاج "التزاوج بين لغتين". تزاوج يعرف الدويهي كيف يفيد منه. "بعض أصدقائي الذين أقرأ لهم مقاطع من نصوصي الروائية أحياناً، يعترضون قائلين إنّه لا يمكن قول هذا بالعربية. لكني لا أعدِّل شيئاً. هذا التنقل بين لغتين في وعيي ككاتب، يضعني في مواقع غير معهودة بالنسبة إلى القارئ العربي".
وهل للأدب قدرة على تطعيم لغة كالعربية بتقنيات أخرى؟ بالنسبة إلى الدويهي، فإن اللغة تضفي تجديداً على أدواتها حين تواكب زمناً ما، وتعكس أنماط حياة وشخصيات جديدة وتحاكي اهتماماتها ورؤيتها في معالجة الأشياء. ذلك يعرِّف اللغة، نفسها، بعوالم كانت سابقاً بمنأى عن الأدب. "كل من يكتب رواية سيكسر هذا الزجاج العازل للغة". ثمة تقديس متوارث يدعو للالتزام بتقاليد محددة للغة وعدم الخروج عنها، تضاف إليه تلك الحُرمة التي تصنعها اعتبارات أكاديمية وكلاسيكية للأدب واللغة. لكن الرواية، وفق الدويهي، قادرة على أن تهزأ بهذه الحرمة قليلاً.
قبل أشهر قليلة، صدرت روايته الأخيرة "حي الأميركان"، وحملت اسم المكان عنوناً لها، الأمر الذي يجعل الحيز الجغرافي بطل العمل منذ اللحظة التي تقع فيها عينا القارئ على الغلاف. قارئ الدويهي يعرف أنه روائي صاحب انتباه وعناية وتصرّف خاص بالأمكنة في سرده، وأن محترف الرواية لديه هو الأمكنة الهامشية أو "الثانوية" أو "غير المركزية"؛ أمكنة لم يزجّ بها التاريخ في أحداث سياسية ونزاعات وحروب.
لكن الدويهي يعترض على هذا الوصف: "ثانوية؟ دعك من هذه التسمية. هل هناك ما يمكن اعتباره أمكنة ثانوية حقاً؟". ثم يستدرك، معيداً تقليب فكرته: "أجل. ثمة أماكن لها مكانة سياسية وثقافية معروفة، مثل باريس ونيويورك، قياساً بأماكن أخرى قد تبدو هامشية بسبب ضحّ الأضواء المسلطة عليها في وسائل الإعلام". هكذا، يعمل الدويهي في أمكنة ليست بارزة في الصورة: مطارح "مهملة" أو عادية. هي أمكنة "أصنع لها قواماً أدبياً، بحيث تصبح أكثر متانة". مثلاً، كتبَ رواية "ريّا النهر" بعد أن اشترى شقيقه المقهى الذي يتكلم عنه في الرواية. "كنت أريد أن أصنع للمكان أسطورة"، يقول صاحب "مطر حزيران".
الرواية، بالنسبة إلى الدويهي، تمثل صوت الفرد. "كل رواية هي رواية فردية، ضدّ النمط. دون كيشوت أشهر الأمثلة. إنه الفرد المعاكس، الذي لديه كلام آخر. الفرد لديه الرواية، أما الجماعة، فلديها الملحمة"، يبين صاحب "اعتدال الخريف". الرواية البرجوازية، بالنسبة إليه، هي رواية الفرد. وهو بالتالي لا يمكنه أن يروي الحرب إلا من خلال فرد. يقول: "لا أملك تخطيطاً مسبقاً لما أريده في الرواية. لا أخطط لأن أجعل الأحداث الفرديّة أكثر أهمية من أحداث سياسية هامة". فالفرد هو الذي من شأنه أن يكشف خلل العلاقات والنزاعات والاعتبارات التي تبنى عليها صراعاتنا، بسذاجته أحياناً، ببساطته، برفضه، وبتمسكه بقيم معينة. يكشفها من دون أن يسعى إلى البطولة أو لفت الأضواء. وجود هذا الفرد يقلق المنظومة المتعارف عليها.
يعتقد الدويهي بأن المرء يمكن أن يحمل الكتابة حيثما يريد. يستشهد بقول ستاندال "الكتابة هي مرآة على جانب الطريق"، ويضيف عليه: "وأنت تحمل هذه المرآة معك أينما ذهبت". صحيح أن هناك ملاحم كبرى تخترق الحدود الزمنية، كأعمال هوميروس، لكننا لسنا في اليونان القديمة. "نحن في لبنان. وما الذي يمكننا أن نكتب عنه؟ الحرب، الهوية، الانصياع، إلغاء الآخر. هي مواضيع متجذرة في الرواية اللبنانية، تماماً كالمواضيع التي تجذّرت في الأعمال الأدبية الفلسطينية".
وحين ينتقل الحديث إلى الكتابة في كنف الأحداث والثورات الراهنة، يقول صاحب "عين وردة" إن على هذه الأحداث العظيمة "أن تلتقي مع نزعة إنسانية للتعبير عن علاقات البشر، كي تنتج أدباً جيداً. لا يمكن أن تأخذ من الحرب بحد ذاتها موضوعاً. روسيا القيصرية وكتب دوستويفسكي هي ديكور متين لعلاقات الجنون والشغف والحب والصراعات النفسية والإنسانية. لو طرحت كل هذه العناصر جانباً، فما الذي سيبقى؟ الحدث التاريخي. وأي قيمة روائية سيحملها؟". سيناريوهات الشخصيات، بالنسبة إليه، هي التي تلعب الدور الأهم في بنية الرواية.
ما يهم جبور الدويهي، في النهاية، ألّا تكون رواياته من روايات القطار، تلك "التي تقرأها في القطار أو تقرأ بعضها ولا تأخذها معك، بل تتركها على المقعد". يقول ذلك ضاحكاً، قبل أن يبدأ قراءة الفصل الأول من روايته الجديدة، غير المنشورة بعد.