فانوس على الجبل
في الغابة نساءٌ
مغشيٌّ عليهن تحت حُزَم متناثرة من الخشب
في الغابة أطفالٌ
دُفنوا قبل ميعادهم
في الغابة رجال مسنّون حفاة خائفون
يتلاشى سعالهم في عَدَمِها
الدم نائم هناك في الغابة.
خلف المنحدرات الملتهبة في الشمس
صرخاتُ قرونٍ من الألم
بعضُ عشبٍ قديمٍ
يتراقُص في الماء.
أنياب الفصل المقبل تُفْزِع الأشجار
فتتعرّى ليلةً بعد ليلة.
في السّكون الوخّاز كرؤوس الإبر
تتلوى الأرض المحترقة
والسّماء تدور كحجر الرَّحى.
الجبلُ الذي كوَّنه أهلُكَ
يتآكل عاماً بعد عام، كالحزن
تتجمّد كل السنوات وكل القرون
ومثل غَضَبٍ في عينين بلا أحلام
تتجمّد روحك
وفي سواد الموقد
تتناثر كلماتك المشلولة
مثل حبوبٍ جُمعت في مَجاعة.
من بعيد، يلتمع فانوس على الجبل
كعين متلألئة
تلتهب رَمْشَتُها ببطء
هذا قرض بيتك،
حين تُنزع المجوهرات عن النساء الباكيات،
أترى الموتى
موتى الجوع، والفيضانات، والمرض
الذين ارتقوا هذه المنحدرات
يمسحون الثلج المُترامي بأيديهم،
هذا جوعك
الذي تحوّل إلى مخلبٍ ينهشك.
أنصتْ
الهدير المستمرُّ يأتي من الغابة
والرغبات تشحذ أنيابها
على الصخور.
■ ■ ■
قبلة
قديم تاريخ القُبلة قِدَمَ الجنس البشري، ولكنه لا يتجاوز عادة أكثر من الوصف الحيادي الجاف، أو الإعلانات التي يقدّمها المشاهير، أو سرد يتحدّث عن أطول أو أقصر قُبلة. القبلة دائماً خارج التاريخ. في هذا العالم المزيّف، تتقارب الشفاه المتوهجة لشخصين حتى تسمع ارتجافهما. يتجمّع كلّ الدم والأفكار في الشفتين، ويصل القلب إلى هناك بهدوء، وتتربع الروح على هاتين الشفتين. تلك اللحظة التي تزهر فيها الورود وترفرف فيها الطيور وتلتمع النجوم، وتسمع من مكان ما من باطن الأرض تدفّق المياه الجوفية؛ كل هذه أحداث معتادةٌ ولكنها تهز الأرض من تحتك.
في النهاية، يعود الدم إلى مجراه، ويستأنف القلب دوره القديم في دفعه إلى كامل أنحاء الجسم. تعود الأفكار إلى الذهن وترجع الروح إلى البرية. يعود كل شيء عادياً مجدداً. لقد نجونا بأعجوبة من العاصفة، أو النار. إننا الآن على قيد الحياة وقد عدنا إلى التاريخ نتنفس الصعداء.
■ ■ ■
إنهاك
في المساء، بعد أن تنفض عنك العالم،
وتضع رأسك على السرير، ما الذي يتبقى
سوى البؤس الذي يثقل كتفيك
ما الذي يتبقى
سوى عفن في الروح
ببطءِ الروتين اليومي،
يخيِّمُ الظلام،
تعود نسائم الحديقة إلى الحدائق،
يسجن الأطفال في المنزل،
تراقبهنّ النسوة طيلة النهار.
بدويٍّ صاخبٍ في دماغي
أنطلق للنوم،
مثل نهر عاصف
يتدلى السكون من السماء
عندما يزحف الليل صامتاً
ليجثم على صدري،
يعلو سريري ذلك الإرهاق الداكن الأسود
يداعب منحنيات العضلات
ويرفع يده من الهاوية
تنتصب السنين كالصمت،
يتجمع فيها النوم في حجرات مليئة بالضباب،
الماضي هناك كشموع محترقة،
وعلى سطوح السنين يتشكل الجليد،
فوقه تمشي الأحلام الزاعقة تصفّر
مخلفة وراءها خيوطاً من الدم
في النور في منتصف الليل
تتابع الأشجار بهدوء سقوط أوراقها،
وفي عقول الحيوانات في منتصف الليل
تندفع الأرض المعوقة إلى اللانهاية،
في منتصف الليل
يتساقط الرماد المتصاعد من الخراب
على عظامي.
■ ■ ■
الواقع هذه الأيام
حين أُطارد الواقع
أراه يتعقبني، بل يجري أسرعَ منّي
في كلّ مكانٍ أرى أسنانه اللامعة: في المنزل، في السوق
في النور وفي الظلمة،
أذهب إلى النوم متوجّساً أن أجده هناك
وحين أتسلّلُ خلسةً من الحلم
أجده هناك مُنتظراً فرصتَه ليَضْرِبَ
الواقع مُبْهِر هذه الأيام
لا يمكنك النظر في وجهه
حاولتُ الإمساك به
فهجم عليّ وركض مثل حيوان برّي
لا أرى سوى آثاره هنا وهناك
في الشارع، تحت شجرة في البرّية
في كوخ أو في موقد مهجور أو في سقف منهار
أو في بيتٍ موحِش
هذا الرجلُ الذي مات للتو
لديه الكثير ليقوله،
ربما أكثر من جميع الأحياء
تهبّ رياح شديدة
تتطاير الأفكار والأحلام والذكريات
مثل قصاصات الورق
شيءٌ داكنٌ ومظلم
ليلٌ يجمِّعُ في أحشائه وحوشاً مريبةً
محتالٌ قاتلٌ مخاتلٌ
يتخطّى السماء والجبال والحقول
يمدّ يده ليخنق الأعضاء الحيويّة للأرض
ثمة خطة لطرد قبيلة من غابتها
حشود من النازحين
تحمل بقايا منازلها
مخططات مرسومة لدفعها إلى غياهب مستقبلٍ مجهول
وفوق، في السماء، طائرةٌ مرعبة تجهّز قذيفتها
بينما، في الوادي، مجموعة من الانتحاريين
ربطوا القنابل والصواريخ بأجسادهم الجميلة الفتيّة
قادة العالم مع حرّاسهم الشخصيين ورجال الأمن
والقوات العسكرية وشبه العسكرية
مدجّجين بالرصاص والبنادق وقاذفات الصواريخ
الواقع مُفرِطٌ في واقعيته هذه الأيام
ودمه مرئيٌّ أكثر من جسده.
■ ■ ■
جلد
لا شيء سوى الجِلد
أجسادٌ جِلدية وأغراضٌ جلدية
الكون كلّه مصنوع من الجِلد
تتراقص تلك الصور الفاقعة على التلفاز
ليلاً ونهاراً
كلّ شيء يصلّي للجلد
تتساقط من السماء أنواع كثيرة من الكريمات
والمراهم والرغوة والمناشف
يتبادل الرجال والنساء جلودهم الشهيّة
الحبُّ مجرّد اسم لطبقة رقيقة من الحب
والروح أشبه بقشرة من الروحانية
لا يُحتفى إلا بالهامشيّ في كل شيء
العمل جارٍ على قدم وساق في كل مكان لإنتاج معجزات جديدة
إذ تُغلَّف الفكرةُ القبيحةُ بسهولة بجلد جذّاب
ليظهر الإله المتوّج مرتدياً
جلداً إلهياً
هذا جلد آخر لا يُبْرعِم
جلدُ جسدٍ حيٍّ يقظٍ نابض
لا يتنفّس جمالُه
ولا يقشعرُّ
لا يشعر بالألم
ليس جلد "كبير"
الشاعر الذي تحرق أنفاسه الحديد وتحوّله إلى رماد
بل جلدٌ آخر يصمّ أُذنيه عندما تناديه
لا ينفث الدم، ولا يحرق القلب عند لمسه
الحزن هناك على السطح
حيث يصبّ نهر من الجلد السميك في بحرٍ من التجاعيد
يجرف المراحيض المعطَّرة
والمناشف
والمراهم
هذا زمننا المغمور بالجلد
هذا بيتنا
الذي تتراقص فيه أفكارنا
أترى هذه القصائد الخالية من الأمراض والحزن والتسوّس والموت
انظر إليها، ستجدها مستلقيةً هناك تتشمّس مثل الجلد.
* ترجمة عماد الأحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوجه شرقاً
لعقود طويلة ظلّت الحداثة الشعرية العربية تتجه غرباً، مهملةً امتداداتها الشرقية ومنها شعريات بلدٍ كبير مثل الهند جرى اختصار شعرياته في أسماء المهابراتا وطاغور. في حين أنه زاخر بتجارب شعرية لا تقل أهمية عن شعراء العالم الغربي. مانغاليش دبرال أحد هؤلاء. ولد عام 1948، في قرية بمنطقة الهيمالايا في الهند. يكتب باللغة الهندية وله - إلى جانب مجموعاته الشعرية العديدة - كتبٌ في النقد الأدبي والثقافي.