أبو نبيل؛ رجلٌ صغيرُ الحجم، وجهه طفولي ترتفع فيه الوجنة الحمراء نحو الأعلى، عيناه خضراوان صارمتان في متابعة الأمتار القليلة أمامه، فيما تظل شفتاه مزمومتين كمن يُجنّد عضلاته، حتى الصغيرة منها، في معركة حياته اليومية.
كان يشدّ بيديه على طرفي حقيبة الظهر التي لا تفارقه، كما يفعل طلبة المدرسة العابرين حوله. لكنّ ظهره لا يكتفي بهذا الإسناد، فيتقوّس، ليمشي كنصف إنسان بخطواتٍ سريعة مدروسة من بيته نحو وجهته الغامضة. هو لا يعترف، بتقليد السير اليومي خاصته، بحاجة الانسان إلى المركبات، أو الحديث، أو التوقف.
كان يتراءى لي حزنٌ ثقيلٌ يغالبه الفضول لدى مراقبته، هذا الجار الأصمّ المنغلق على نفسه، إلى أن اقتربت يوماً من منزله المحاط بسورٍ عالٍ، كنت طفلةً يومها، وحاولت جاهدةً أنّ أرى عبر شقوق الباب الخشبي، حتى تكشّف لي كنز من الخرداوات في الساحة الأمامية.
حوّلت نظري، فوجدتُ جبلاً متراصّاً من الألواح الخشبية، والقطع المعدنية متعددة الأحجام، وألعاباً خشبية وبلاستيكية ميتة، ومعدّات حدادة ونجارة يعلوها الغبار.
هل أبو نبيل مخيف؟ بعد ذلك اليوم، لم أستطع لسببٍ ما، أنّ أنظر بعينيه أو أتخيّل حديثاً معه.
بعد اكتمال بناء الجدار حول بلدتنا، ومرور ما يزيد على عشر سنوات، تفاجأتُ برؤية وجهه الودود مُجدداً. كان يسير بمحاذاة الجدار، في الجهة المؤدية إلى القدس والمغلقة أمام الكثير من الفلسطينيين. الطريق المباشرة التي كان يسلكها يومياً لم تعد موجودة، اقتسمتها الأعمدة الاسمنتية، وتغيّر المشهد كلياً؛ استجدت طرقٌ جانبية، وبات الحاجز العسكري أوسع وأكثر صرامة. مع ذلك بدا بأنّ أبا نبيل لم يأبه بهذا كله، كان كالقندس الذي لا توقفه الطرق المغلقة، يتابع سيره الدؤوب حاملاً حقيبته الثقيلة الغامضة، ملتزماً بدوره القدري في تجميع الخردة.
عدت بعدها لمصادفته يومياً ومراقبته بدهشة وهو يزداد ضموراً وتكوّراً على نفسه، وباتت رؤيته التي أخافتني يوماً مدعاةً للطمأنينة والألفة، وسبباً لسعادةٍ لم أفهم منشأها بعد.
* كاتبة من فلسطين