ثورات أميركا اللاتينية: الانتفاضة على الجوع تجمع المسحوقين

27 نوفمبر 2019
الاحتجاجات لا تتوقف في سانتياغو (العربي الجديد)
+ الخط -
بعد شهر ونصف الشهر على انطلاق التظاهرات في تشيلي، لم تتراجع وتيرة الحركة الاحتجاجية، ولم يعد رفع أسعار المترو هو القضية، بل كل النظام الذي قام عليه البلد منذ انتهاء عصر الديكتاتور أوغستو بينوشيه قبل نحو 30 سنة. واللافت اليوم أن الحراك الاحتجاجي في أميركا اللاتينية لم يعد يقتصر على تشيلي، بل توسع إلى فنزويلا وبوليفيا والإكوادور وغيرها من الدول التي تعيش أوضاعاً غير مستقرة هذه الأيام، لتصبح الحالة في القارة مفتوحة على خيارات متعددة، في ظل ثورة ضد الطبقة السياسية والأحزاب التي خذلت المواطنين، الذين يريدون واقعاً مختلفاً ينهي أساساً أزماتهم المعيشية والاقتصادية.

تشيلي لا تهدأ
خارج العاصمة التشيلية سانتياغو بنحو ساعة ونصف الساعة، يقع في مدينة سان أنطونيو المرفأ البحري الرئيسي الذي يستقبل أضخم البواخر المحمّلة بكل ما لا يخطر على بال الفقراء، ليس فقط السيارات الفارهة، بل مواد كمالية ليست بمتناول لا أهل هذه المدينة ولا غيرها من مدن وضواحي العاصمة الأكثر فقراً. في سان أنطونيو، وأثناء جولة "العربي الجديد" فيها، كانت قبضات المحتجين حاضرة بالهتافات ذاتها في سانتياغو، ورائحة الغاز المسيل للدموع نفسها التي تفرق من خلالها قوات الأمن التابعة مباشرة للرئيس سبستيان بنييرا جموع المتظاهرين الذين يزداد غضبهم وتتسع حركتهم الاحتجاجية.

شوارع وطرقات وبيوت سان أنطونيو توحي للقادم إليها بأنها بيوت من عصر الحقبة الشيوعية في رومانيا. لا الشوارع ولا أرصفتها تقول إن الناس يعيشون في مدينة تشكّل بوابة الثراء التشيلي، بل كأن المدينة في دولة عالم ثالث لم تخرج بعد من حقبة السبعينيات عمراناً وبنى تحتية، باستثناء الفندق الفخم المطل على الواجهة البحرية وحيث تستقبل بواخر السياحة الضخمة التي تحمل المئات من السياح من جنسيات أخرى.
وما يلفت أنه بعد سقوط العشرات من الأشخاص برصاص الأمن وجرح الآلاف، فإن الانتفاضة في تشيلي مستمرة ومتصاعدة وبزخم يدفع الشرطة والأمن إلى مزيد من استخدام الغاز، وخصوصاً وسط سانتياغو عند ساحة إيطاليا التي تشهد كراً وفراً بين المحتجين والأمن.

وفي طريق الحافلة الكبيرة التي تنقل المسافرين من سان أنطونيو إلى سانتياغو، توقفت الحافلة وغيّرت طريقها مرات عديدة. وبعد سؤال الركاب عما يجري، يأتي الجواب "قطع للطرقات". فبشكل فجائي تحضر مجموعة من الشباب حاملين يافطة ضد السلطة ويقطعون الطريق السريع الذي يعلو جسراً قبل أن تبدأ لعبة "القط والفأر" بينهم وبين الأمن. وبدل أن تأخذ رحلة العودة ساعة ونصف تمتد لأربع ساعات. على جانبي الطريق يمكن مشاهدة الأحياء الفقيرة، المكوّنة من مساكن خشبية والتي تغيب عنها الخدمات، ومن هذه الأحياء يخرج شبان وشابات للتظاهر، وبعضهم يصاب قبل وصوله إلى التظاهرات الكبرى. انتشار الأمن يبدو واضحاً ليس فقط في مناطق الاحتجاجات، فقد توسع هذا الانتشار ليشمل "المناطق الراقية"، والتي تسد فيها المتاجر والبنوك والشركات واجهاتها بالخشب وألواح زينكو، فقد استغل البعض حركة الاحتجاجات للقيام بعمليات نهب في وضح النهار، وجرى حرق العديد من المحال وتحطيم محطة مترو ومواقف حافلات.

وضع مأساوي

متظاهرون كبار السن احتجاجاً على النظام التقاعدي (العربي الجديد) 

في سان أنطونيو تذكر الصحافية الإذاعية التشيلية فيكتوريا أوريل بعربية تعلمتها في دمشق قبل 25 سنة، أن الناس يعيشون وضعاً مأساوياً، "فالمواطنون انتظروا 30 عاماً ليتحسن وضعهم، وإذ بهم اليوم وكأن شيئاً لم يتغير". فيكتوريا تطلق أمثلة كثيرة في حديثها لـ"العربي الجديد"، ومنها وأشدها حساسية اليوم قضية كبار السن، "فمن عمل طيلة حياته، وبغض النظر عن منصبه ورتبته الوظيفية السابقة، راتبه التقاعدي لا يتعدى 150 دولاراً".
التعقيدات الاجتماعية المترافقة "مع غياب العدالة الاجتماعية والعيش الكريم يمكن أن يلاحظها أي تشيلي يسأل مواطناً آخر عن المرة الأخيرة التي ارتاد فيها دور سينما أو مسرح، فتلك أحلام صعبة المنال"، كما تقول صحافية أخرى لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى أن عائلات تشيلية كثيرة لا تذهب إلى السينما سوى مرة واحدة في العام "فتذكرة السينما تكلف الشخص 5 آلاف بيسوس (الدولار الأميركي نحو 800 بيسوس)".

وتشرح هذا الوضع الذي تعيشه الطبقات التشيلية بالقول "أنظر إلى هذا الميناء يتحوّل الآن إلى عهدة موانئ دبي العالمية، ولا يجب أن يقيس الصحافي الآتي من خارج تشيلي الحياة بمعيشة الطبقة الثرية في ضواحي العاصمة بل بما تعيشه المدن الفقيرة التي تغيب عنها الخدمات الأساسية، وفي تشيلي الأثرياء يزدادون ثراء من هذا الميناء، والفقراء يزدادون فقراً وحرماناً". وتضيف "العديد من كبار السن المتقاعدين في تشيلي مضطرون للعمل بعد تقاعدهم، وكذلك يضطر الزوج للعمل دوامين إلى جانب عمل الزوجة لتسيير أمور الحياة، وهذا يخلق مشاكل إضافية في الأسر التشيلية"، مشيرة إلى "غياب المساواة والعدالة الاجتماعية في تشيلي، التي نظر إليها آخرون في أميركا اللاتينية كمثال للتقدّم، لكن تحت قشرة النمو العمراني وانتشار الشركات الضخمة وتحقيق نمو في الدخل القومي، ثمة صورة قاتمة استمرت لنحو 20 سنة بحرمان الأغلبية من فوائد هذا التقدّم، ما أثار هذه الاحتجاجات".

غياب الحلول
يوم السبت الماضي، خرج الرئيس بنييرا على شعبه بكلمة، بعدما وصلت إلى مسامعه هتافات الغضب المطالبة برحيله ورموز النظام، ليخاطبهم فيها عن "الأمن وضرورة استعادة النظام"، وفي نهاية الكلمة "راح يتحدث عن مطالب الشارع في وقف سياسة الصناديق التقاعدية (أي اف بي) الخاصة والتي تنهب 20 في المائة من رواتب الناس، في القطاعين الخاص والعام، على أساس دفعها بعد 65 سنة ولا يتلقى الناس سوى أجزاء قليلة مما دفعوه في حياتهم، واعداً بأن البرلمان يناقش الآن قانوناً مختلفاً يمنح نصف الراتب لمن هو فوق الثمانين بعد 2020، أي أن الذين هم متقاعدون الآن عليهم أن يعيشوا 15 سنة إضافية على 150 دولاراً، هذا إذا لم يموتوا قبلاً"، بحسب الصحافية نفسها التي تحدثت لـ"العربي الجديد". وتضيف "بنييرا يدير البلد وكأنه يدير إحدى شركاته، ولهذا دائماً ما تأخذ خطاباته منحى رئيس شركة يخاطب موظفيه وليس شعباً يطالب بعدالة اجتماعية وتحسين الخدمات في القطاع العام". وتلفت إلى أن البرلمان التشيلي ناقش قبل أيام قضية تخفيض رواتب النواب (التي تصل إلى نحو 8 ملايين بيسوس شهرياً) "واليسار ويسار الوسط وافقا على خفض الرواتب لكي تذهب الأموال نحو تحسين أوضاع الشعب، فيما اليمين وقف ثابتاً برفض تخفيض الرواتب".

من جهتها، تقول أوريل إن "كلمة بنييرا صبّت الزيت على النار، فاندفع المحتجون للدعوة إلى إضراب في تشيلي، ما يدل على أن الناس لم تعد تحتمل خطاباً مكرراً عن الأمن والنظام".

والقصة أيضاً ليست حول السؤال الذي يطرحه المؤيدون للسلطة في تشيلي: أين كبار السن لا نراهم يتظاهرون؟ كما يذكر المحلل السياسي اليساري في سانتياغو ميغيل أبسنورا، مضيفاً "أبناء هؤلاء الكبار المرضى والمتقاعدين هم الذين يقودون الحراك اليوم ويرفعون الشعارات ضد الصندوق التقاعدي الذي لا يريد الرئيس التحرك تجاهه لصلة عائلته به".
وعن المشهد السياسي، لا يخفي أبسنورا تشاؤمه "من القوى التي تقع على يسار الوسط، فالمشهد مؤسف في غياب توافق بين القوى اليسارية ويسار الوسط التشيلية، فيما قوى اليمين ويمين الوسط تقف قوية في البرلمان وتساند بنييرا في مواقفه".

كولومبيا تنضم للركب
المشهد في كولومبيا ليس أفضل حالاً مما هو عليه في تشيلي، فبوغوتا لحقت بسانتياغو خلال الأيام الماضية في حركة احتجاجية تتوسع. وكانت التظاهرات والصدامات التي شهدتها بوغوتا يوم الجمعة الماضي، والتي أدت إلى مقتل عدد من المتظاهرين برصاص الأمن، قد دفعت السلطات إلى فرض حظر تجوّل في العاصمة الكولومبية التي احتج فيها الناس على السياسات الليبرالية لحكومة الرئيس إيفان دوكي والعنف المستشري في البلد واتهامات للشرطة بالفساد وغض الطرف عن العصابات التي تؤرق الشارع الكولومبي. وعلى الرغم من فرض السلطات في بوغوتا حظر تجوّل، إلا أن الناس لم تأبه وخرجت السبت الماضي في مزيد من التظاهرات.

وبحسب مصادر عربية فلسطينية مطلعة في بوغوتا تحدثت لـ"العربي الجديد"، يبدو أن السلطة الكولومبية "هي الأخرى اختارت المواجهة في الشارع من خلال نشر عشرات الآلاف من قوى الشرطة والأمن في مواجهة متظاهرين لم يفعلوا شيئاً في البداية سوى الاحتجاج بإنشاد النشيد الوطني والقرع على أواني الطبخ وعلى حديد الأرصفة". وكانت بداية الاحتجاجات قد انطلقت الخميس الماضي ضد حكومة اليمين بزعامة دوكي، ووُجهت الاحتجاجات السلمية بعنف الشرطة، وهو الأمر الذي صعّد وأزّم الموقف يوم الجمعة، خصوصاً مع مقتل وإصابة بعض المتظاهرين.

وشهدت فجر السبت تحوّلاً في التظاهرات، إذ رد البعض على رصاص الأمن فأعلنت السلطات "مقتل 3 رجال شرطة وجرح 7 بعدما أحرق المتظاهرون مقرا للأمن". وتستبعد مصادر "العربي الجديد" أن تكون للحادث أي علاقة بالحركة الاحتجاجية التي بدأت في كولومبيا.
ودفعت الاحتجاجات دوكي إلى الإعلان، السبت، عن أنه سيطلق ما سماه "حواراً وطنياً، لأجل تقوية السياسات الاجتماعية الحالية ولخلق تعاون حول رؤية بعيدة المدى لإغلاق الثغرات في النظام الاجتماعي". ويبدو أن السلطة اليمينية الحاكمة في بوغوتا أسرعت أكثر من حكومة سانتياغو لفهم أبعاد الحركة الاحتجاجية، فيما "لا يوجد تفاؤل كبير بهذه الدعوة للحوار التي تشبه حقنة تخدير لم تفد في تهدئة الشارع"، بحسب ما تذكر المصادر الفلسطينية المطلعة.

أسباب اتساع التحركات

بالنسبة للبعض يبدو أن اتساع الحركة الاحتجاجية في أميركا اللاتينية تعبير آخر عن "انحسار القيادات التي تحمل رؤى معينة، سواء يسارية كانت، كما في حالة إيفو موراليس في بوليفيا، أو سبستيان بنييرا الآتي من طبقة رجال الأعمال الأثرياء في معسكر اليمين في تشيلي"، بحسب ما يذكر لـ"العربي الجديد" في سانتياغو الباحث في مركز الأفكار السياسية والاجتماعية سيرخي خافيير.
ويذهب خافيير إلى القول إن الزعامات ذات الشخصية الكاريزمية "كما كانت حالة موراليس، والتي كانت تحمل أفكاراً تقدمية نحو إحداث تغييرات اجتماعية، لم تلحظ أن مجتمعاتها تتغير أيضاً". ويضيف أن الأفكار التي طرحت قبل سنوات والتي تعتمد على الكثير من المثالية بدأت تواجه الواقع "وهو أحد تفسيرات ما يجري من احتجاجات في عدد من دول القارة، إذ سقطت تلك الأفكار التي عوّل الناس عليها لتحقيق نقلة في مجتمعاتهم نحو عدالة ورخاء لم يتحققا للجميع".

في المقابل، ثمة طبقة في تشيلي تقف بعناد إلى جانب بنييرا على الرغم من انتقادها أسلوب حكمه، "خشية من النموذج الفنزويلي، على الرغم من أن الوضع مختلف تماماً، ففي كاراكاس يهيمن الرئيس على الجيش والأمن وعلى المشرعين، فيما في تشيلي الكلمة الفصل للبرلمان، لكنه تخويف تعمل عليه السلطة في سانتياغو كما شأن أي سلطة، وهو يشبه ما يجري في منطقتكم العربية في تخويف الأنظمة من البدائل لكسب تعاطف طبقات تخشى على مصالحها من التغيير"، بحسب خافيير.

الدفع بالعسكر لمواجهة الشارع (العربي الجديد) 

من جهته، يذهب عضو البرلمان التشيلي السابق، أحد المناضلين ضد ديكتاتورية بينوشيه، السفير السابق لتشيلي في فرنسا، باتريسيو ألسا، إلى الاعتراف في حديث مع "العربي الجديد"، بـ"أننا في الحركة الديمقراطية التي نقلت تشيلي من عهد الديكتاتورية إلى الديمقراطية، لم نحقق ما كان يُفترض تحقيقه للشعب، على الأقل العدالة الانتقالية والاجتماعية لشعب صبر 30 عاماً على مختلف التيارات السياسية".

وفي نظرة سريعة على القارة اللاتينية خلال العقود الأخيرة، يُلاحظ أن تفاؤلاً كبيراً كان قد انتشر مع طرح الأفكار المثالية في السياسة، وساهم قادة مثل دانييل أورتيغا في نيكاراغوا ولولا دا سيلفا في البرازيل وهوغو تشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، في نشر منسوب مرتفع من التفاؤل الاجتماعي لدى مواطني تلك الدول.
ففي بوليفيا، وبغض النظر عن الطبيعة التي خرج بها موراليس من الحكم، إلا أن كثيرين يرون أن الرجل ذهب بنفسه إلى هذا الوضع، حين أصر على كسر دستور البلد الذي اعتُمد أصلاً أثناء ولايته لعدم الترشح لولاية ثالثة ورابعة.

الباحث في الشأن اللاتيني في الدنمارك، البروفسور في جامعة آرهوس، هانس لاوا هانسن، قال لصحيفة "إنفارماسيون"، إن "قصة أميركا اللاتينية لا يمكن فصلها عما نسميه الصدمات الثقافية والاجتماعية بعد مئات السنوات من الاستعمار والديكتاتورية المتوحشة في القرن العشرين". واعتبر أن تلك الحقب "خلقت بعض المجتمعات التي تعيش فيها شعوب بلا ثقة بالمؤسسات وببعضها البعض، وهو ما يقود أيضاً إلى الفساد والمحسوبيات". ورأى أنه "لا يجب النظر إلى اليسار وكأنه بعيد عن المفاسد في تلك المجتمعات".

الفكرة نفسها تنتشر على سبيل المثال في سانتياغو حول "عدمية بعض مواقف أقصى اليسار في رفضه لأي حوار"، وفقاً للباحث سيرخي خافيير. ويبدو أيضاً بالنسبة لمساهم في عملية الانتقال الديمقراطي في تشيلي، مثل باتريسيو ألسا، أن شيئاً ما "يختلف اليوم تماماً عن فترة نضالنا ضد الديكتاتورية الانقلابية في الشارع، مع غياب ثقة الناس تماماً بالطبقة السياسية".
وما ينطبق على تشيلي ينطبق نوعاً ما على ما شهدته بوليفيا من ردة فعل عنيفة على استقالة موراليس أو الاحتجاجات المندلعة في كولومبيا. وبكل الأحوال تبقى الحالة في دول أميركا اللاتينية مفتوحة على آفاق متعددة ومختلفة، يرفض البعض تسميتها "ردة إلى الديكتاتورية"، كما يقول الباحث أبسنورا، معتبراً أن "الحركة الاحتجاجية في بلدنا وفي كولومبيا والإكوادور وغيرها هي أيضاً ضد النخب اليمينية، ولكن بالعموم الناس تثور وتحتج ضد الطبقة السياسية والأحزاب التقليدية بعدما شعرت أنها خذلتها طيلة عقود من الحكم والوعود، وبالتالي الناس تريد واقعاً مختلفاً عما هو موجود اليوم".