حظي الحمار باهتمام خاصّ من بين جميع الحيوانات. ونُسبت إليه أفكار وآراء وطباع ومواقف متناقضة بتناقض وتتعدّد الثقافات الإنسانية. ولذلك، اختلفت أشكال حضوره في تلك الثقافات، كما تعدّدت أنواع الحمير ذاتها، إذ يحصي المختصّون منها الحمار الصومالي والقبرصي والأميركي وحمار الأبيض المتوسط وغيرها.
وإذا كان خوان رامون خيمينث سمى كتابه في الإسبانية "بلاتيرو وأنا"، فهذا لا يعني أنه يمنح الحمار مكانة أسمى من مقامه. وإنما هي مسألة لغوية، يتقدّم فيها الآخر على المتكلّم في لغته، ويتأخّر عنه في العربية، حين ترجمه لطفي عبد البديع "أنا وحماري".
وفي ظل العولمة، من جهة، وقوة التثاقف، من جهة ثانية، صار بوسع المرء أن يختار الحمار الذي يمكن أن يتّفق مع قناعاته ومواقفه في الحياة، من بين حمير الشعوب دون أن يخلّ بالتوازن الفكري لثقافته.
لدينا مثلاً حمار توفيق الحكيم في "حماري قال لي"، وحمار عزيز نيسين التركي، ويمكن أن نقول حميره، فقد تُرجمت له إلى العربية ثلاثة كتب عن الحمير يتّهمها فيها أنها بليدة وتفتقر للإحساس في مواجهة التسلّط. ولدينا شعار الحمار للحزب الديمقراطي الأميركي. ولكنه مثل غالبية الشعارات التي يرفعها البشر، لا يشير إلى مضمون عمل الحزب الذي أظهر قادته سلوك الضباع، لا صبر الحمير، في سنوات الحكم التي تولّوا فيها قيادة أميركا.
وقد ساق اللؤم بعضَ الكتاب العرب إلى تشبيه الشعوب العربية بأكثر الحمير حيرة وغموضاً في التاريخ. وهو حمار بوريدان. هذا الحمار منسوب إلى الفيلسوف الفرنسي جان بوريدان، وقد كان أهم اكتشاف فلسفي له، حين وضعه أمام معضلة أفضت إلى موته مع الأسف: فأمام جوع الحمار الشديد وعطشه المماثل، وضع الفيلسوف له الشعير والماء في آن واحد، وعلى المسافة ذاتها. ولكن الحمار احتار ما الذي سيأخذ أوّلاً: الشعير أم الماء؟ وقد طالت حيرته كثيراً، ولم يجد لمعضلة الأولوية التي امتحن فيها جواباً مقنعاً، ومات جوعان عطشان جرّاء تردده أو عجزه عن حسم الموقف من الطعام أو الشراب. هل التشبيه صحيح؟
هل احتارت الشعوب العربية فيما تريده، أم هي حيرة المثقف في شأن الشعوب؟ وقد كان بوسع الكتّاب في الحقيقة استلهام حمير أخرى يمكن أن تفتح أفق الانسداد التاريخي أكثر من حمار بوريدان، خذ مثلاً حمار الكونتيسة دي سيغور التي قدّمت اقتراحاً مختلفاً عن الحمير في كتابها "خواطر حمار".
وسوف ترى أن لدى حمارها فلسفة أكثر نضجاً وتماسكاً من جدّه الميت، وهو حين يجد نفسه جائعاً في السوق، يلتهم بلا تردّد الخضراوات والفواكه من سبت سيدته الظالمة. ولا يلبث أن يجري هارباً إلى الحقول، حين يعرف أن أصحابه يستعدون لمعاقبته وإعادته مرغماً إلى إسطبل الطاعة. وهو موقف يتسم بالراديكالية تجاه المطالب العادلة، وبالحزم في تحقيقها.
في نهاية رواية "الحمار" لغونتر ديبرون تفكر اليزابيث: يا للفظاعة.. لماذا لا يملك المرء أن يتغيّر؟