ثقافة تحت الحصار

06 اغسطس 2016
من سلسلة "درس في الطيران"، لـ هاني زعرب
+ الخط -

تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كم مربعاً. يعيش في هذه المساحة الصغيرة نحو مليون وثمانمائة ألف نسمة. نحن نتحدث، والحال، عن سجن كبير يحدّه من الغرب البحر، ومن الشرق جنود الاحتلال، ومن الجنوب معبر رفح المغلق (مصري)، ومن الشمال معبر بيت حانون (ايرز، اسرائيلي) المغلق أيضاً.

لكن رغم هذا الواقع السجين وراء المعابر المغلقة والأسلاك الشائكة والبنادق المصوبة على القطاع هناك أحلام ورؤى وتصورات تترجم على شكل شعر وقصة وصور وأشرطة سينما. هناك شبان وشيب يحلمون. بأحلامهم هذه يقاومون الحصار.

شكلت التراكمات السياسية التي مرت بها القضية الفلسطينية، أكثر من منعطف في تاريخ الشعب الفلسطيني، مما كان له أثر بالغ على المشهد الثقافي. يمكن القول إن الحياة الثقافية سارت، بتفاعل وتواز، مع مسار الشأن العام الفلسطيني، سواء داخل فلسطين المحتلة أو خارجها. فالمشاركة في العمل الوطني لم تقتصر على الكفاح المسلح، بل اتخذت أشكالا وأدوات فنية وأدبية: شعراً، مقالة، قصة، مسرحاً، رواية، فنوناً تشكيلية، وأشرطة سينمائية.

شكل قطاع غزة حالة فريدة من المد والجزر الثقافيين، حيث عانى المشهد الثقافي من صعوبات كبيرة في زمن الاحتلال الإسرائيلي المباشر، أي من عام 1967 وحتى عام 1994. نحو 27 سنة من تقييد الحريات والمنع والحصار والإغلاق، واعتقال الكتاب والمثقفين، وتقييد حرية إصدار الكتب، وإصدار قوائم من الكتب ممنوعة التداول، وفرض رقابة عسكرية على المنشورات.

بعد أن استوعب الكتاب والمثقفون الفلسطينيون صدمة حزيران/ يونيو 1967 عملوا على ابتكار أدواتهم الفنية والأدبية للتعبير عن واقعهم في حالة من التحدي للاحتلال وممارساته.

وتكاد أن تكون ممارسات القمع وعنصرية الاحتلال من أكثر القضايا التي ألح عليها الكتاب والمثقفون في أعمالهم الإبداعية. كالطوق والإغلاق، والاعتقال والتعذيب، والقيود على الحركة ومنع السفر، والعقوبات الجماعية. هذه تقريبا أهم مفردات معجم الثقافة في غزة بعد هزيمة حزيران.

لكن رغم ما أشرنا إليه من صعوبات سابقة إلا انه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي بدأت الحياة الثقافية بالانتعاش من خلال التواصل مع الكتاب والمثقفين في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48، في حين ظل هناك ما يشبة الانقطاع مع ما يجري في العالم العربي.

برزت، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عوامل عدة أثرت في الحياة الأدبية والثقافية في قطاع غزة. منها: انتشار الصحافة، ودور النشر والمطابع، والجامعات، فضلا عن تأسيس اتحاد للكتاب الفلسطينيين.

أسهمت هذه العوامل في رسم معالم جديدة للمشهد الثقافي في قطاع غزة حيث بدأت مجموعة من الشباب بكتابة القصة والرواية والشعر ونشر نتاجها في الصحافة المحلية، أو طبعها عبر دور النشر المحلية، وتنظيم لقاءات وندوات حولها. وقد صدرت خلال هذه الفترة، وحتى التسعينيات، 16 رواية، و25 مجموعة قصصية، و15 ديوانا شعريا، بالإضافة إلى عروض مسرحية وسينمائية.

بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، خطت الحياة الثقافية في غزة خطوة إضافية في الانتعاش، خاصة من خلال وزارة الثقافة الفلسطينية التي حاولت العمل على تبني الإبداع والمبدعين، سواء من خلال دعم إصدارات أو عبر تبادل التواصل مع العالم العربي بالمشاركة في الندوات والمؤتمرات الثقافية.

كما تأسست عشرات المؤسسات والجمعيات الأهلية التي تعنى بالثقافة والفنون، ونشطت الحركة المسرحية، وحركة السينما من حيث عروض الأفلام أو إنتاجها، وإقامة معارض فنية، وأخرى للكتاب.

فقد أقيم أول معرض للكتاب في قطاع غزة عام 1997 بمشاركة عشرات دور النشر والمكتبات العربية من مصر والأردن ولبنان، وتونس، وعلى هامش معرض الكتاب أصدر الرئيس الراحل ياسر عرفات قرارا بإنشاء " دار الكتب الوطنية الفلسطينية " بالقرب من جامعة الأزهر. كما نظمت إدارة المعرض بالتعاون مع اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة برنامجا للفعاليات والندوات الثقافية.

بعد الانقسام الفلسطيني في عام 2007، تراجع المشهد الثقافي بشكل لافت، حيث هيمنت سلطة الأمر الواقع على مؤسسات السلطة الفلسطينية ومن ضمنها وزارة الثقافة، فتعطل عملها، كما أغلقت العديد من المؤسسات والمراكز الثقافية أو سيطرت عليها، وقيّد عمل العديد من النقابات والاتحادات العاملة في الشأن الثقافي والفني التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية مثل اتحاد الكتاب، واتحاد الفنانين، واتحاد التشكيليين، ومؤسسات التراث، والمؤسسات الأكاديمية والتعليمية، كما فرضت القيود على الكتاب والمثقفين.

وقد حال إغلاق المعابر، ومنع سكان قطاع غزة من السفر، من التواصل بين الكتاب والمثقفين الغزيين ومحيطهم العربي، وأدى أيضا إلى توقف دور النشر والطباعة، وارتفاع نسبة البطالة بين الخريجين وسكان القطاع حتى وصلت إلى نحو 65%.

وبعد سنتين أو ثلاث سنوات، من الانقسام السياسي، خففت سلطة الأمر الواقع من قيودها نتيجة الحراكات الجماهيرية والثقافية. بجهود ذاتية ودعم من جهات مانحة، بدأت تنشط المؤسسات والاتحادات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والجمعيات والمراكز الثقافية، ومؤسسات شؤون المرأة، فكانت هناك ندوات ومؤتمرات ثقافية، وعروض مسرحية وفنية، ومعارض تشكيلية، ومهرجانات للأفلام السينمائية.

ورغم حيوية المشهد الثقافي إلا أن ظروف الحياة اليومية الصعبة ، وشعور المثقفين والفنانين بالحصار وعدم قدرتهم على التواصل مع الكتاب والمبدعين العرب، والخارج عموما، ما يحول دون متابعتهم ما يستجد في المشهد الثقافي العربي والعالمي إلا من خلال الوسائل الالكترونية، غلَّب اشكالا من الكتابة والعمل الفني على أخرى، حيث نجد، مثلا، أن الأعمال الشعرية أكثر إنتاجا في غزة قياساً إلى القصة والرواية، وهذا يعود، على الأغلب، إلى الطبيعة الانفعالية السريعة للشعر، أما القصة والرواية فتحتاجان إلى حالة من الاستقرار والانفتاح.

(باحث فلسطيني/ غزة)


المساهمون