قد تبدو تجربة الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي (1966) محلية، للوهلة الأولى، بحكم تمحورها حول مواضيع تتعلّق بالمكان والأصل والاحتلال والذاكرة والحدود، غير أن فرادة الأفكار المترجمة بلغة بصرية معاصرة وتنوّع الوسائط التي يستخدمها في تنفيذ أعماله يجعلانها تتجاوز حدود المحلي لتخاطب أي متلقٍّ.
لا يتعصّب البطنيجي لوسيط معيّن على حساب وسيط آخر، فالأهم بالنسبة إلى هذا الفنان، متعدّد الوسائط، إيصال أفكاره إلى المتفرّج بطريقة صادمة أحياناً ولا تخلو من الطرافة، رغم قساوة الموضوعة، أغلب الأحيان.
كما في مجموعة معرضه الأخير المقام حالياً في فضاء الفن المعاصر"أندريه مالرو" في مدينة كولمار في منطقة الألزاس شمال فرنسا، والذي يضم 15 عملاً أنتجها خلال السنوات الشعر الماضية. عنوان المعرض "رؤية مزدوجة"، وهو اسم داء يصيب العين، فيشاهد المريض الأشكال على نحوٍ مزدوج. لكن ما علاقة الرؤية المزدوجة بالأعمال المعروضة؟
يدعو البطنيحي المتفرّج بل ويدفعه للتفاعل مع أعماله بطريقة مزدوجة، أي أن عملية التلقّي هنا تشبه الرؤية المزدوجة، أو بدقّة أكبر، كما لو أنها " تلقٍّ مزدوج"، مثلما هو الحال في "سلسلة ورق جدران"، وهي الأحدث ضمن المجموعة.
في الزمن الأول من المشاهدة أو التلقّي، نرى مجموعة من ورق الجدران الملوّن والمزيّن بموتيفات مكرّرة. يتّضح لاحقاً، في الزمن الثاني لعملية التلقّي، أنها مشاهد لأحداث معاصرة انتشرت على وسائل الإعلام بكثرة وانطبعت في ذاكرتنا بسبب قسوتها ورمزيتها في آن، كلحظة مقتل الناشطة المصرية شيماء الصباغ، أو مشهد إذلال السجين العراقي في سجن أبو غريب، بعد أن وضع الجنود الأميركيون كيساً على رأسه، وجعلوه يقف شبه عارٍ على سطل، أو لحظة ذبح أحدهم على يد عنصر من "داعش"، أو مشهد نزوح فلسطيني أو ربما سوري، أو لحظة الهجوم على مقرّ صحيفة "شارلي إيبدو"، وأيضاً كلمة "هرمنا" التي انتشرت خلال الثورة التونسية، إضافة إلى موتيفات أكثر اختصاراً كالطائرة الحربية أو فأسين متقاطعين. تلك المشاهد التي نتحاشى أن نراها إذا مرّت على شاشاتنا، يعيد الفنان تمريرها ليذكّرنا ببؤس وعنف الراهن.
في عمل آخر يندرج تحت المفهوم نفسه، نفّذه البطنيجي عام 2010 ويحمل عنوان "GH0809" وهو اختصار لبيوت غزة 2008/ 2009، نشاهد إعلانات أنيقة لبيع وتأجير الشقق السكنية، كالتي نصادفها في واجهات المكاتب العقارية في أوروبا ليتبيّن بعد التدقيق أنها شقق مهدّمة وأنقاض بيوت جرى استهدافها خلال عملية "الرصاص المصبوب" التي شنّتها قوّات الاحتلال الإسرائيلية على قطاع غزة أواخر 2008.
عشرون إعلاناً مصوّراً ترافقها نصوص وصفية لمواقع البيوت ومساحاتها وعدد قاطنيها، وقد استعان البطنيجي بمصوّر فوتوغرافي من غزة لإنجاز هذا المشروع بسبب منعه من سلطات الاحتلال من العودة.
في مجموعة "أبراج المراقبة" المنجزة عام 2008، والتي، للأسباب الآنفة الذكر، نفّذها الفنان بمساعدة مصوّرين من الداخل، يقدّم البطنيجي وثيقة طوبوغرافية لأبراج المراقبة الإسرائيلية المنتشرة في الضفّة الغربية، تحاكي هذه السلسلة الأعمال الفوتوغرافية للثنائي الألماني هيلا وبرند بيشر من حيث موضوعة العمارة الصناعية وتقنية التصوير بالأبيض والأسود.
لا يستوحي البطنيجي أعماله، المعروضة حتى نهاية الشهر الحالي، من الحالة السياسية الصعبة والظروف التراجيدية التي نعيشها وحسب، وإنما يبحث بشكل موازٍ في تفاصيل الحياة اليومية، مبرزاً بأسلوب طريف ما هو "عادي" كعمل يظهر فيه تعبير "ههههه" الذي نستخدمه للتعبير عن الضحك على الفضاء الافتراضي، مطرَّزاً على قماش على طريقة المطرَّزات الفلسطينية التقليدية.
اقرأ أيضاً: هاني زعرب: اللوحة وتحوّلاتها النصية