تونس وقلق الجوار الدائم

03 اغسطس 2014

نازحون ليبيون إلى تونس في معبر رأس جدير (1أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

مع تزايد عدد الأشقاء الليبيين الوافدين إلى المعابر الحدودية المشتركة بين تونس وليبيا، مباشرة بعد عيد الفطر، تعاظمت المخاوف من نزوح أعداد غير مسبوقة من اللاجئين، في ظل اشتداد المعارك التي تنذر بأنها ستكون هذه المرة طويلة ومعقدة، وقد تتخذ شكل حرب أهلية مدمرة. فمنذ اندلاع الثورة الليبية، وإلى حد الآن، استقبلت تونس ما يناهز مليوني ليبي استقروا في تونس، لأسباب عديدة. ولكن، منذ ذلك التاريخ، أيضاً، تغيّرت في البلدين أشياء كثيرة، ستحدّد لاحقاً ما ستكون عليه الأمور في الأشهر القليلة المقبلة.

حين أسقطت الثورة التونسية نظام بن علي، كانت النخبة السياسية الصاعدة تخشى أن يعمد النظام الليبي إلى خنق الثورة التونسية، فتصبح البلاد بين كماشتي جارين يبديان، سراً وعلانية، امتعاضهما الشديد من الذي حدث، لأسباب عدة. كانت الجزائر وليبيا تخشيان انتقال عدوى ما حدث في تونس، فضلاً عن أنهما لا تطمئنان إلى القوى السياسية التي تعرفان، تماماً، أنها ستكون أكبر مستفيد من ذلك، والتي لا يملكان عليها آنذاك سلطاناً.

لم يخفِ العقيد الليبي امتعاضه ممّا حدث، وبأسلوبه الاستفزازي، كان يدعو التونسيين إلى استقبال بن علي باعتباره بطلاً وطنياً. وبقطع النظر عن المواقف المناهضة للثورة، كان لليبيا والجزائر، وضمن سياقات مختلفة، تجارب مريرة مع بعض تعبيرات الإسلام السياسي.

وجرت الأمور في البلدين الجارين بما لم نتوقع تماماً: انهيار نظام العقيد بعد صراع مسلح استمر لأشهر عديدة، دمر البلاد، وهيّج ما طُمر في أحشائها العميقة، مدة ناهزت نصف قرن، وصعود حركة النهضة مع حلفائها إلى الحكم في تونس.

لا نحبّذ المقارنات بين السياقين التونسي والليبي، فللمقارنات في العلوم الاجتماعية، والسياسية عموماً، فخاخ قَلَّ مَن ينجو منها، فضلاً عن أنها عادة ما تنزاح لدى المتلقي إلى مفاضلة، وهو ما لا نرضاه، لافتقاد ذلك المعايير العلمية. غير أننا نحتاج حتى نستكشف ما ستؤول إليه الأمور لاحقاً إلى التذكير بأن "الدولة الليبية" لم تشهد من تجارب البناء الوطني إلا مدة وجيزة، لم تبلغ "العشريتين" بالكاد، ما أفقدها تراثاً دولوياً عميقاً، يرسخ الانتماء المشترك والموحد.

كل الهيئات السياسية مصطنعة، هكذا تُعلّمنا أبجديات العلوم السياسية، ولكن التاريخ يتكفّل بجعلها فوق ـ تاريخية، تبلغ بالتاريخ هذا، ومعه، مرتبة الجواهر الأصلية. خميرة التاريخ تسوي تلك البناءات سرمداً أبدياً ثابتاً، كلما تلاحم النسيجان، السياسي والاجتماعي، وشكلا مشتركاً يلوذ إليه الأفراد، عند الأزمات. قصر التجربة وسرعة المرور إلى "دولة النظام"، جعل "البناء الوطني" يُنجَز على شاكلة مقايضة: الولاء للنظام مقابل ريع النفط، وفوّت العقيد على ليبيا بناء دولة وطنية تنّمي مشتركها الاجتماعي والسياسي.

ظلت انتماءات ما دون الدولة نائمة، وسكبت الفروقات بين المناطق، لا من حيث عوائد الريع النفطي فحسب، بل من حيث الاستفراد بأجهزة الدولة، والتغلغل فيها على غرار القبائل والشلل، شحنة من الحقد والنقمة.

ومع ذلك، يظل المشكل الأخطر، في اعتقادنا، بنية المعارضة التي لم يترك لها النظام أي فرصة للترعرع داخل المجتمع الليبي، إذ من فرط الاستبداد والوحشية، اضطرت إلى خيارين، إما العمل السري الذي ينزع إلى العنف المسلح، أو الفرار إلى الخارج، حيث ضغوط الإملاء والمال يندر أن تُرَدّ.

نشأت لدى هذه النُّخَب الليبية المعارضة ثقافة سياسية ضامرة، لا تعير للمشترك السياسي الوطني شأناً كبيراً، كما فشلت بسبب ذلك في بناء توافقاتٍ تستدعي التنازل شرطاً. لذلك، لم يكن مستبعداً أن تلجأ في حسم خلافاتها إلى العنف المسلح، وذلك ما يفسر مفارقة تعسكر التيار الليبرالي المدني، حتى أصبح "المدني" اسماً دالاً على ميليشيا مسلحة.

عوّلت الحكومات المتعاقبة، بعد الثورة في تونس، على الشقيقة ليبيا، المتخلصة من ديكتاتورها، كثيراً، فهي بالنسبة إليها حديقة كبرى لما يناهز مليون شاب عاطل من العمل، وهي، أيضاً، خزان نفط قد يخفف الوطء عن ميزانية دولة يهددها الإفلاس. لكن كل تلك الآمال تحطمت، فلم تكن ليبيا ما بعد العقيد بالنسبة الى تونس سوى ثقوب سوداء كبيرة، تتسلل منها جماعات الجريمة المنظمة، وخصوصاً المجموعات الإرهابية المسلحة. كانت العمليات الإرهابية في بئر علي بن خليفة، والروحية، مؤشرات مبكرة لما ستؤول إليه الأمور، غير أننا لم نقرأ ذلك جيداً.

تجد الجماعات الإرهابية في ليبيا الهائجة، والمتململة حالياً، حاضنة لها، ولذلك يحنّ بعض الليبيين والتونسيين إلى فترة كانت ليبيا فيها سوراً لا يخترقه الإرهاب إلا قليلاً. لا شك أن وصفة المناعة تلك كانت أنهاراً من الدماء وجبالاً من الجرائم الفظيعة، ولكن يستحضر بعضهم ذلك كله باعتباره مكسباً لا يضاهى، وحاجة حالية، وذلك في تسويق إيديولوجي لا ينتهي عند هذا الحنين، بل يبرر الانقلاب على المسار برمته.

ترتكب المجموعات الإرهابية، أينما حلّت، أبشع الجرائم، ولكنها تهيج لدى أوساط متنامية الحنين إلى ما تخلّص منه الناس: الاستبداد، خصوصاً في ظل العجز عن التصدي لها، أو حالة الفوضى التي تخلقها تلك المواجهات غير المتكافئة أحياناً. تشكل الجماعات الإرهابية، في ظل الدولة الضعيفة، أو الدولة الفاشلة، ماكينة استدعاء الزمن الفائت، حين تنجح في مصادرة حق الناس في الأمل. اليأس من بدائل حقيقية توسّع دوائر الحريات والمواطنة والأمن معاً، تجارة رابحة يستفيد منها كل أعداء الثورة، مهما اختلفت منطلقاتهم الإيديولوجية.

لن تستطيع تونس أن تقدم تجربتها الحالية في الانتقال الديمقراطي، على علاته وعثراته، إلى الأشقاء الليبيين، باعتبارها نموذجاً يحتذى، للأسباب التي قدمناها سابقاً. ولكن، لن تستطيع أن تستقر هذه التجربة بالذات، وليبيا على هذه الحالة من العنف الإرهابي المُعمّم الذي قد يحيلها في قادم الأيام إلى دولة فاشلة.

ومع ذلك، علينا أن نعترف أن تونس لن تستطيع حالياً توجيه ما سيحدث في ليبيا مستقبلاً، حتى ولو خاطرت بذلك، وهي تواجه على الملعب الليبي لاعبين محليين وأجانب محترفين في التدخل. لا نحبّذ سياسة الانكفاء، ولكن علينا أن ندعم بدائل ممكنة، لا تحشرنا بالضرورة بين خياري الإرهاب وعسكرة "المدني".  وعلى افتراض أن يكون مصطفى عبد الجليل نبي قومه المنتظر، فإن عليه أن يؤول حكمة "الجار قبل الدار" في الحالة التونسية الليبية، حفظاً للأوطان أحياناً.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.