لم تكن الأحزاب التونسية الكبرى، ولا متوسطة الحجم، تتوقع أن يختار الرئيس قيس سعيّد شخصيةً تنتمي إلى حزبٍ غادر البرلمان منذ انتخابات عام 2014، ليرى أنه الأقدر على تشكيل الحكومة. اختيار إلياس الفخفاخ، من "التكتل من أجل العمل والحريات"، شكّل صدمة أخرى تضاف إلى صدمات عديدة تعرضت لها الأحزاب التونسية منذ فترة وتتوالى بشكلٍ لافت، وجميعها تمثل رسائل تحذير موجهة إليها، لإشعارها بأن التجربة الحزبية لم تنجح حتى الآن في حماية الثورة بشكل كامل. فالانتخابات الرئاسية في تونس صعّدت أستاذاً جامعياً من خارج فلك الأحزاب، واليوم يكلف بتشكيل الحكومة جامعي آخر كان ينتمي إلى حزبٍ ليس ممثلاً بالبرلمان، وكان أول قرار اتخذه بعد توليه المسؤولية أن استقال منه.
ما يفعله حالياً إلياس الفخفاخ سبق أن قامت به أحزاب تونسية أخرى، عبر اقترابها من رئيس الجمهورية تحت يافطةٍ عريضة كتب عليها "الخط الثوري". إضافة إلى حركة الشعب ذات التوجه الناصري، والتيار الديمقراطي ذي المنحى الليبرالي، وحركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، يعمد حزب "تحيا تونس" الذي يقوده يوسف الشاهد، اليوم، إلى تقديم نفسه كرافد من الروافد الداعمة لقيس سعيّد، والمدافعة عن قيم الثورة، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية حول ماهية هذا المصطلح الذي يكاد أن يفقد دلالاته، ويصبح بلا مضمون ومساحةً من دون ضفاف.
أحزاب عديدة أعلنت عن عدم ارتياحها لقرار عزل "قلب تونس". من هذه الأطراف، حركة النهضة التي يشقها خلافٌ حول هذه المسألة، وأيضاً "تحيا تونس". وستبقى هذه القضية الخلافية مطروحة على طاولة المشاورات، ما دامت هذه الأحزاب تبدي رغبة في تشكيل حكومة وحدة وطنية.
عاد الحديث من جديد عن "حكومة الرئيس" بعد ما جاء على لسان إلياس الفخفاخ من أنه بصدد التشاور مع رئيس الجمهورية حول تشكيل حكومته، ووفق توجهاته السياسية. وعلى الرغم من أن هذه المسألة غير واردة في الدستور، إلا أن الجميع يتوقعون أن يتنازل رئيس الحكومة عن بعض صلاحياته لصالح رئيس الدولة، وهو ما يعني حصول انتقال فعلي من نظام برلماني على نظام رئاسي. وتعتبر هذه المسألة من أشد المسائل الخلافية بين الفرقاء السياسيين. وعلى الرغم من أن سعيّد أكد في خطاب التكليف أنه "لا تزر وازرة وزر أخرى"، في إشارة إلى أن رئيس الحكومة سيكون مسؤولاً أمام البرلمان، إلا أن أوساطاً عديدة تؤكد هذه الأيام أن المسار الحالي، إذا استمر على ما هو عليه، سيؤدي إلى خلاف ذلك.
يعتقد عدد من المراقبين أن الطريق ستكون سالكة لتمرير الحكومة أمام البرلمان، لكن مؤشرات عدة تؤكد من جهة أخرى أن المسار سيكون صعباً في حال لم يلجأ الفخفاخ إلى إجراءات مصاحبة وموازية لحماية فريقه من مناورات قد تفاجئه، وتكون صادرة من جهات متعددة. إذ ليس من المتوقع أن يكون مصير هذه الحكومة شبيهاً بمصير حكومة الحبيب الجملي التي سقطت برلمانياً. سيتم التصويت لصالح حكومة الفخفاخ بأغلبية قد تكون ضعيفة، لأن عدداً واسعاً من أعضاء البرلمان فازوا في الانتخابات الأخيرة بفضل آلية "أكبر البقايا"، وبالتالي ليس من مصلحتهم أن يتم حلّ البرلمان وخوض انتخابات جديدة سابقة لأوانها. لكن مرور الحكومة في البرلمان لا يعني خروجها من منطقة الخطر، وإنما توجد حالياً نوايا معلنة أو خفية لدى بعض الأطراف الوازنة التي شرعت في شنّ حملة على الحكومة والدعوة إلى إسقاطها خلال فترة قد لا تتجاوز ستة أشهر على أقصى تقدير. لأن هذه الأطراف تخشى من أن تنجح الحكومة المرتقبة، وهو ما من شأنه أن يزيد من عزلة الأحزاب والتقليل من دورها ومكانتها، على الرغم من أن المفاوضات حالياً تُجرى مع أحزاب معروفة تنوي إقامة حزام سياسي لدعم الحكومة. لكن التفكير من الآن في سحب الثقة من فريق إلياس الفخفاخ هو شبح بدأ يلوح به البعض، ومن شأنه أن يدفع البلاد نحو مزيد من عدم الاستقرار والشعور بالإحباط.