تونس ما بعد العقد الاجتماعي

25 فبراير 2016
جهات سياسيّة بخلفيات أيديولوجيّة تجتمع على إقصاءحركة النهضة(مواقع التواصل)
+ الخط -

تحقّق تونس أحسن ترتيب عربي في مؤشر الديمقراطيّة، بحسب منظمات ومراكز عربية ودوليّة، كما تتقدّم بخطى حثيثة نحو إنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي.

إنجاز تونسي مهمّ ضمن مشهد عربي ملوّن بأحمر الدمّ وحروب الطوائف وتسلّط أنظمة الفساد والاستبداد، وهو ما يجعل تونس كالزهرة في حقل الشوك.



رغم احتفاء الكثير من النخب والقادة والمثقفين من كل أنحاء العالم بهذه التجربة الناشئة تحت عنوان "التوافق السياسي"، إلّا أنّها تتعرّض لنقد شديد من جهات أخرى منها السّياسي الأيديولوجي ومنها الشّعبي الحقوقي.

بالنسبة للنقد الشعبي يمكن وضعه في خانة عدم الرضى عن الأداء السياسي للحكومات المتعاقبة بعد الثورة، فهي لم تلب حاجيات ومطالب طيف واسع من الشعب خاصّة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ بسبب الحمولة السياسيّة المفرطة في الأجندة الانتقالية، وهو ما يجعل هذا النقد أو الغضب أحيانا موضوعيا ومشروعا.

كما أنّ أهمّ ما يميّز هذا النّقد الذي تمظهر في الحراك الاجتماعي الأخير، بداية الوعي الشعبي بأهمّية الفصل بين الدّولة كمؤسسات ثابتة مستقلّة والحكومات كمعطيات متغيّرة قابلة للتقييم والتحكيم، العام والخاص، والذي جعل عددا كبيرا من المحتجين يؤكد على سلمية احتجاجه ضمن ما يكفله القانون وندّد بالعنف والتخريب المشبوه.

النّوع الآخر من النّقد أو الرّفض للمسار السياسي التونسي تعبّر عنه جهات سياسيّة بخلفيات أيديولوجيّة تجتمع على ضرورة إقصاء حركة النهضة من الحكم وأحيانا من الممارسة السياسيّة عموما، وتستهدف كلّ من يتقارب معها تحت شعار: صديق النهضة عدوّي، وعدوّ النهضة صديقي.

كلّ هذا يعبّر عن حالة تعصّب أيديولوجيّة مرضيّة يؤكّدها غياب البديل لدى هؤلاء وغياب البرنامج السياسي في مقابل محاولة اقتناص كلّ فرصة للنّهش في الحكومات دون فصل بينها وبين الدّولة التي تستكمل بناء مؤسساتها وديمقراطيتها.

يمكن السّماح ببعض من هذا الرفض التعصبي-العدمي، ما قبل التواضع على الدستور الجديد الذي يمثل عقدا اجتماعيا يلغي بتأسّسه حالة الطبيعة (المتمثلة في الاستبداد ومخلّفاته هنا)، إلّا أنّه لم يعد مقبولا بعد الانتهاء من الدستور الذي أعلن بداية مرحلة جديدة من مراحل التطوّر الاجتماعي، تقتضي تعايش الناس مع بعضهم البعض بموجب حزمة من القوانين المشتركة، حيث لا فرق بين تونسي وآخر إلا بمدى انضباطه للدستور والقوانين.

وإذا كانت نظريات علم الاجتماع السياسي تؤكد عدم جواز استبعاد الأفراد من العقد الاجتماعي بذريعة الإجرام في ما مضى، طالما انضبطوا لشروط العقد، فكيف يكون التعامل مع من ساهم في وضع العقد وناضل من أجل تفعيله؟!

إنّ وجود نخبة معتدلة تستلهم مبادئها من الديمقراطيّة رغم اختلاف مرجعياتها ومنطلقاتها الفكرية يمثّل شرطا جوهريّا لحدوث انتقال سياسي سلمي وتحقيق نجاحات سياسيّة واقتصادية واجتماعية.

ذلك يوفّر جهدا ووقتا كبيرين للتّفكير في قضايا الناس والبحث عن إجابات جادّة وعمليّة عن أسئلة المواطن اليوميّة من قبيل كيف نوفّر نقلا محترما ومضبوط الوقت؟ كيف نؤمّن تغطية صحّية تليق بمواطن القرن الواحد والعشرين؟ كيف نوفّر تعليما حضاريّا متقدّما ومتأصّلا في ثقافتنا في آن واحد؟ كيف نحقّق الأمن الشامل في وطننا بما يضمن الاستقرار ويوفّر شروط الاستثمار..؟

كلّ هذه الأسئلة تتطلّب برامج وخططاً ناتجة عن دراسات وأبحاث وليس صراعات هوية وهميّة حسمها الدستور ولا يعبأ لها الشعب في أغلب الأحيان.

يجب تحويل النقاش إلى هذه المساحات الشاغرة، ثمّ انتخاب وتقييم الأحزاب والفاعلين على هذا الأساس النفعي والخدماتي.

أكّد تاريخ الدولة الحديثة في العالم العربي أنّ الصّراع الأيديولوجي لا ينتهي إلا بالفرز السياسي والإقصاء تحت ستار الحداثة أو الدين ممّا يجعل المعركة السياسية حرب وجود سرمديّة، تنهك الدّولة والمجتمع معا وتجهض أحلام الشّعوب.

كما كرّس هذا الصراع فرضيّة التضادّ بين الحداثة والدين ممّا مزّق هويّة الشعوب العربيّة المسلمة وأسّس لجهل نخبوي مقدّس، يتعامل مع المعرفة بمنطق ستاتيكي.

يذكر الحديث أنّ أحبّ الناس إلى الله أنفعهم، بما يجعله بالضرورة أحبّ إلى النّاس.

كن إسلاميا أو ماركسيا أو ليبراليا، كن ما تشاء، فقط احترم غيرك وقدّم أفكارا تنفع البلاد والعباد.

(تونس)

المساهمون