تونس: شعر أبعد من الثورة

04 نوفمبر 2014
لـ "شوف" / تونس
+ الخط -

اختلف الشعراء التونسيون في تعاطيهم مع حدث الثورة، لكنّ أغلبهم ارتدّ إلى الشعر الملتزم ليعيد إليه الحياة متوسّلاً حججاً شتّى لتبرير استعادته هذه. الشعر الملتزم، هنا، هو ذلك الذي يستخدم اللغة المتعدّية التي تستدعي ما هو خارج النص وتستمدّ منه شرعيّتها وشعريّتها، بحيث تصبح مجرّد زجاج شفّاف نبصر من خلاله المضمون.

وإذا كان أكثر الشعراء عادوا إلى هذا الأدب تحمّساً واستئناساً بأشكال جاهزة للتعبير عن احتفائهم بالثورة وتمجيدهم لرموزها، فإنّ القليل منهم حاول أن يحوّل حدث الثورة إلى سؤال فنّي، إلى هاجس جمالي، أي إلى لغة لازمة تشدّنا إليها قبل أن تشدّنا إلى شيء آخر.

أغلب القصائد التي كُتبت عقب الثورة كانت انفلاتاً تلقائياً للمشاعر، وتعبيراً مباشراً عن حماسة طارئة. نسي شعراء هذه القصائد، في غمرة حماستهم، أنّ الشعر ليس انفعالاً، وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل، أي إلى طريقة خاصة في القول، إلى كتابة على غير مثال سابق. الفن، مثل الحياة، لا يتجلى على هيئة واحدة مرتين.

من الشعراء الذين خرجوا عن هذا النمط من الشعر الذي يتّكئ على اللغة المتعدّية، المنصف الوهايبي الذي جنح في مجموعته الأخيرة إلى شعر هامس، متأمّل. أمّا الشاعر فتحي النصري فظلّ متشبّثاً بغنائيّته الرقراقة التي تحوّل الشعر إلى نشيد طويل يحتفي بالحياة. من جهته، بقي شعر أولاد أحمد شديد الارتباط بالواقع الاجتماعي التونسي، علماً أن هذه الوظيفة المرجعية لا تنفي عن هذا الشعر وظيفته الإنشائية، بل تؤمّن له أدبيّته وتجد له مخرجاً فنّياً.

بعبارة أخرى، ليست علاقة هذا الشعر بالواقع كنائيةً، أي علاقة تجاور وإرداف، بل استعاريّة، أي علاقة تفاعل وحوار. النصّ الكنائي يظلّ على علاقة وطيدة بالمرجع، موصولاً ومترابطاً به. أمّا النصّ الاستعاريّ، فينفصل عن المرجع ليؤسّس كيانه المستقلّ وهويّته الخاصّة.

من أهمّ الحركات الشعرية التي تأسست عقب الثورة، وتحديداً في صيف 2011، "حركة نص" التي ضمّت عدداً من الشعراء، مثل زياد عبد القادر، وأمامة الزاير، وصلاح بن عياد، وخالد الهداجي، وشفيق طارقي، وعبد الفتاح بن حمودة، ونزار الحميدي؛ وأعلن بيانها الشعري الأول الانشقاق عن السائد والمألوف.

يقول شفيق الطارقي معرّفاً هذه الحركة "إنّها تجاوز للمفهوم النّمطيّ للانتماء. إنّها معادل للاختلاف، وكل محاولة لمأسستها أّو قولبتها جناية في حقها، بما هي إرباك ودهشة. إنّها موقف مضادّ للقبح المستشري في الثقافي التونسي، وفي الشعري منه خصوصاً، مضادّ للانتهازيّة، للمكر، للتّسطيح".

ثمة شعراء تونسيون لم ينتموا بالضرورة إلى أيّ حركة شعرية، وظلوا يكتبون تجاربهم بمنأى عن أي أفق أيديولوجي، مثل شوقي العنيزي، وسفيان رجب، وسنية المدوري، وهدى الدغاري.

لم يعرف الشعر التونسي، في أيّ وقت من الأوقات، ما عرفه في السنوات الأخيرة من تشقيقٍ لأسئلته، إثر التحوّلات السياسية الأخيرة. فقد أثارت عودة الشعر "الملتزم" سؤال الأشكال الشعرية من جديد، وعاد الحديث عن رسالة الشعر ووظيفته.

وبينما اندفع معظم الشعراء إلى التغنّي بالثورة ورموزها متوسّلين بأساليب مباشرة، نجد شعراء آخرين، مثل يوسف رزوقة وعبد الله القاسمي وحسين القهواجي وحافظ محفوظ وعبد الوهاب الملوّح، يواصلون تجاربهم الإبداعية، غير عابئين باللغط الذي ارتفع حولهم. ولا يُعنى بهذا أنّ شعر هؤلاء منفصل عن الواقع، بل موصول بالحياة، يُخبر عنها ويفصح عن حقائقها المستترة، لكنّه لا يتغنّى، بل ينقد، ولا يحتفي، بل يستدرك. وربّما تذكّر بعض نماذجه بمقولة سامويل تايلُر كولردج حول أنّ قيمة الشعر رَهْنٌّ بمدى ما يتحقّق فيه من نظرة ناقدة للحياة.

المساهمون