توصّلت حركة النهضة التونسية أخيراً إلى قرار مفاده أنّها لن تدعم مرشّحاً محدداً للانتخابات الرئاسية المقرّرة بعد أسبوعين، والتي يخوضها 25 مرشحاً. ويأتي قرارها بعد مشاورات طويلة، امتدت أشهراً وتأرجحت خلالها الحركة بين جملة من الخيارات، لتستقر في النهاية على "أكثرها راحة للقواعد والمرشحين والحركة"، وفق ما يؤكّده أحد القياديين البارزين فيها، العجمي الوريمي، في تصريح لـ"العربي الجديد".
وكان مجلس شورى الحركة، بدأ مشاوراته الرئاسيّة قبل الانتخابات بأشهر، عندما قرر خلال اجتماع عقده في مدينة الحمامات، ألا يرشح أحداً من داخلها، وأرجأ الإفصاح عن دعم مرشح من خارج صفوفها إلى ما بعد الانتخابات التشريعيّة، حتى تتجلى صورة الخارطة السياسيّة الجديدة، بشكل يتيح اتخاذ قرار "استراتيجي"، له انعكاساته على الساحة المحليّة وعلى مستقبل الحركة"، وفق مصادر من داخل الحركة.
وحتّمت ضبابيّة المشهد انعقاداً ثانياً لمجلس الشورى، قبل أيام، أسقط فيه خيار الحياد، لتُعلّق الآمال على اتفاق أحزاب "العائلة الديمقراطيّة" على مرشح موحّد، لمواجهة "تغوّل نداء تونس على المشهد السياسي". وسحب الفشل في التوافق على مرشّح، البساط مجدداً من تحت أقدام الحركة، التي رأت في الاتفاق مخرجاً مناسباً لإنعاش اقتراحها القديم "المرشح التوافقي"، ووضعها مجدداً في مأزق حقيقي، تزامن مع عقد مجلس الشورى، اجتماعه الأخير، الذي انتهى صباح يوم الجمعة الماضي، بقرار ألا تدعم حركة "النهضة" أيًّا من المتسابقين الخمسة والعشرين.
ودعت النهضة، وفق بيان مقتضب أصدرته، "أبناءها وناخبيها وكل التونسيين إلى المشاركة بكثافة وفاعليّة في الانتخابات الرئاسيّة"، وإلى اختيار الشخصيّة "التي يرونها مناسبة لقيادة هذا المسار الديمقراطي ولقيادة تجربتنا نحو تحقيق أهداف الثورة في الحريّة والكرامة والعدالة الانتقاليّة"، وهو ما يصفه أحد قياديي الحركة لـ"العربي الجديد"، بـ"الحياد الإيجابي".
ويقود التأمّل في البيان، وخصوصاً ما يتعلق منه بمسألة العدالة الانتقاليّة، إلى الاستنتاج بأنّ "النهضة" تستثني مرشح حركة "نداء تونس"، الباجي قايد السبسي من قائمتها المفضلة، بسبب تصريح ادلى به حول مراجعة القانون. وتقلّص دعوتها لاختيار شخصيّة ديمقراطية تحقق أهداف الثورة، قائمة المرشّحين مجدداً، ما يدفع للاعتقاد بأنّه لدى الحركة أفضليّة ما، تبقيها تحت الطاولة. كما تعكس، على الرغم من كلّ تبريرات قيادات الحركة، مبالغة في الحسابات وخشية من تشكّل المشهد الجديد.
وتفضي محاولات حصر قائمة "النهضة"، وفق شروطها الجديدة، باسمين أو ثلاثة، بعيداً عن مزاعم بعض المرشحين بقربهم من الحركة وحصولهم بالفعل على دعمها. ولم ينف قيادي في الحركة لـ"العربي الجديد"، رداً على سؤال عمّا إذا كانت هذه الشروط، تَعني دعم الحركة للرئيس الحالي المنصف المرزوقي، أنّ "جزءا هاماً من قواعد النهضة، يؤيّد بالفعل دعم ترشيح المرزوقي وهو ما طُرح داخل مجلس الشورى"، لكنه يشير في الوقت ذاته، إلى أنّ "هذه الشروط قد تتوفّر أيضاً في أحمد نجيب الشابي". ويضيف المصدر ذاته: "لذلك تركنا الخيار لقواعنا في تحديد من تراه مناسباً لتحقيق أهداف الثورة، والمحافظة على المسار الديمقراطي والعدالة الانتقاليّة، وهي شروط واضحة لا لَبْس فيها"، على حدّ تعبيره.
مبالغة أم صفقات؟
ويعكس موقف الحركة، كما يراه متابعون لـ"العربي الجديد"، "سعياً واضحاً لكسب الجميع، فهي لا تخسر "النداء" بسبب دعمها لاسم بعينه، ولا تخسر قوى الثورة من خلال شروطها المعلنة، ولا تخسر جزءاً من قواعدها حين تترك لها حريّة الاختيار". لكنّه يشير في الوقت ذاته إلى مبالغة كبيرة في حسابات التحالفات المقبلة وخشية حقيقيّة من سلبيات اختيار صريح على مستقبل وجودها في الساحة السياسيّة. ويوضح هؤلاء أنّ "النهضة تنطلق في حساباتها من أنّ "السنوات الخمس المقبلة ستكون حاسمة ومصيريّة في تموضعها، بشكل نهائي في المشهد العام، كقوّة سياسيّة حقيقيّة، تنافس على الحكم وإدارة البلاد كشريك لا يمكن تجاوزه، وهو ما يفسر هذا التردّد والخوف والحسابات المبالغ فيها".
يبقى أنّ الإجابة الحقيقيّة على هذا الموضوع، تحدّدها "آلة النهضة الانتخابيّة"، ذلك أن عملها لصالح مرشّح بعينه، سيكشف نواياها الحقيقية، أما بقاؤها مُعطّلة ومحايدة، فيعني بالضرورة أنّها اتخذت فعلياً موقف ترك الجميع أمام "مصائرهم الانتخابية".
وتشير القراءة ذاتها، إلى مبالغة في تضخيم دعم النهضة لأيّ مرشح على أهميّته، لأنّه يعكس تقزيماً لرأي الناخب التونسي ولقدرته على اتخاذ القرار الذي يراه مناسباً، ويعكس في الوقت ذاته عدم احترام بقية المرشحين، وكأنّ النهضة هي صاحبة الرأي الفصل في تحديد مستقبلهم السياسي، وهو أمر ليس صحيحاً وكذّبه التونسيون عند كلّ استحقاق بمفاجآتهم الانتخابية، وآخرها الانتخابات التشريعيّة الأخيرة.
ويتزامن قرار النهضة مع أنباء تمّ تداولها في الأيام الأخيرة عن صفقة أُبرمت بين السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، خلال لقاء ثنائي جمعهما، تقضي بأن تكون "النهضة" جزءاً من المشهد النيابي وربّما الحكومي الجديد، مقابل ابتعادها عن ساحة المعركة الرئاسية. وذكرت بعض المصادر أنّ الحزبين اتفقا مرّة أخرى (بعد باريس)، على أنّ تقاربهما ضروري للاستقرار السياسي في تونس، مضيفة أنّ حركة نداء تونس أجّلت كل حديث الى ما بعد انتخابات 23 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. ورهنت هذه التحالفات بموقف الأحزاب من ترشّح السبسي للرئاسة. ويأتي موقف "النهضة" بالحياد الرئاسي، وفق مراقبين، "متناسقا مع الاتفاقات التي حصلت بين الطرفين".
وتؤكّد المصادر ذاتها، أنّ بعض الأطراف الدوليّة كانت ضامنة وشاهدة على هذا الاتفاق بين النهضة والنداء، لأنّ الأولى اشترطت ضمانات حقيقية من الثانية، لكنّ قيادات الطرفين نفت هذه التأويلات، وأنكر السبسي حصول اللقاء أساساً، فيما قلّلت من جديّته أطراف كثيرة أخرى.
في المقابل، تراهن أطراف أخرى على أن الأيام المقبلة ستشهد انفراجاً واضحاً بين الحركتين، من خلال تصريحات ملطّفة من "نداء تونس" بعد حدّتها الواضحة في الأيام الأخيرة.
في موازاة ذلك، يقول مصدر مطلع في حركة "النهضة" لـ"العربي الجديد"، إنّه "كان بإمكان الحركة أن تتجنّب كلّ هذا الإحراج والكلفة السياسيّة، بترشيح أحد أبنائها مهما كانت الحظوظ وأن تدافع عنه برصيدها الانتخابي الذي لا يُستهان به، وتتفادى بالتالي هذا التردد والحسابات المعقدة". ويوضح أنّ الحركة التي كانت تعلق آمالاً كبيرة على فوزها في الانتخابات التشريعيّة، كانت "تعارض أن تتبوأ المرتبة الأولى في السباقات كلّها لأنّها تدرك ايضاً أنّ الساحة السياسيّة، لن تقبل بها قائدة لرؤوس الحكم الثلاثة، إلا أنّ نتائج التشريعيّة قلبت بعض الحسابات وفرضت سياقات جديدة لطبيعة التحالفات الممكنة، وإن لم تمس حتّى الآن مصالح الحركة الجوهريّة، وخصوصاً استمرار وجودها كطرف أساسي في لعبة التوازنات المحليّة والإقليميّة".