تونس: المصالحة المشبوهة

15 اغسطس 2015

السبسي أطلق مشروع قانون المصالحة الاقتصادية في تونس

+ الخط -
يعدّ الفساد المالي من الآفات التي نخرت الاقتصاد التونسي، وأرهقت المواطنين، وعمّقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء زمن الحكم الاستبدادي، وعجلت بالثورة على مافيا المال والأعمال ورموز سياسات المحسوبية والمحاباة في البلاد، ونادى الناس إبّان الثورة بالتنمية العادلة، وبضرورة إنصاف المستضعفين ومحاسبة المستكرشين. وبعد خمس سنوات من رحيل الدكتاتور، ما زالت الطبقة السياسية منقسمة في شأن التعاطي مع ملفات رجال الأعمال والموظفين الذين لحقت بهم شبهة فساد مالي، أو إداري. ويُجلّى ذلك احتدام الجدل حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي أطلقه رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي (20 مارس/آذار 2015) وصادق عليه مجلس الوزراء (14 يوليو/تموز 2015). وهو قانون يجد له تأييدا ظاهراً من الائتلاف الحاكم (نداء تونس، حركة النهضة، الاتحاد الوطني الحر، آفاق تونس) الذي يرى ضرورة رفع القيود على رجال الأعمال، وتذليل العقبات أمامهم، والتسريع في تسوية وضعياتهم غير القانونية، وطي صفحة الماضي تكريساً "للمصالحة الوطنية"، وأملا في تحريك عجلة الاقتصاد، ودفع الاستثمار، واستعادة الأموال المهربة. وفي المقابل، ترى أبرز المنظمات الحقوقية والأحزاب المعارضة (الجبهة الشعبية، التيار الديمقراطي، حركة الشعب، المؤتمر من أجل الجمهورية...) القانون مدار الجدل مطية لرسكلة المفسدين، والتطبيع مع ناهبي المال العام، والتنكّر للدستور ولشعارات الثورة. 
وينبني مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، المزمع عرضه على مجلس نواب الشعب، لإقراره أو إبطاله على ثلاث ركائز. الأولى، إصدار عفو تشريعي غير مشروط على الموظفين العموميين وأشباههم، ممن تعلقت بهم متابعات قضائية، بسبب فساد مالي واعتداء على المال العام. ويُنهي هذا العفو التتبعات كافة، ويوقف تنفيذ العقوبات في صورة صدور أحكام في شأن المشتبه بهم. والركيزة الثانية، تشكيل لجنة من رئاسة الحكومة، تتكون من ستة أعضاء (أربعة يمثلون الحكومة واثنان يمثلان هيئة الحقيقة والكرامة)، وتتولى هذه اللجنة مهمة البت في مطالب الصلح التي يقدمها المتهمون، والرد عليها في أجلٍ لا يتجاوز ثلاثة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة. ويؤدي تعهد لجنة المصالحة بمطلب الصلح إلى إيقاف مختلف أشكال الملاحقة القضائية للمتهم. تتمثل الركيزة الثالثة في عقد صلح مع المتهمين بارتكاب مخالفات الصرف، أي من هرّبوا أرصدة مالية خارج البلاد التونسية، أو من في حوزتهم أموال أجنبية في تونس لم يتم التصريح بها.
وعلى الرغم من أن هذا القانون يروم في الظاهر إعادة العافية إلى الاقتصاد، واستعادة رأس المال الهارب، وتوظيف عائدات الصلح (المقدرة بنسبة 5% تضاف سنويا على مجموع المبالغ المالية موضوع المخالفة لفائدة الدولة) في تطوير البنية التحتية والتنمية الجهوية والبيئة، ودعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة، بحسب ما نص عليه مشروع القانون، فإنه يحمل طيه عدة ثغرات قانونية، ودستورية، وحقوقية، وأخلاقية.
من الناحية القانونية، صدر مقترح المشروع عن مؤسسة الرئاسة، وتبناه مجلس الوزراء، ويفترض أن يقدم إلى مجلس نواب الشعب على أنه مقترح تشريعي حكومي، متعلق برفع التهم عن موظفين ورجال أعمال يشتبه في نهبهم المال العام على كيفٍ ما. والواقع أن الفصل في هذه التهم في الدول المتقدمة يعد من اختصاص القضاء، ولا دخل للسلطة التنفيذية فيه. فلا يمكن للحكومة، من منظور قانوني نزيه، أن تنصب نفسها خصماً وحكما في قضايا مالية شائكة، المتضرر فيها ميزانية الدولة وعموم المواطنين. فالحكم بالبراءة أو الإدانة ها هنا مَشغل قضائي صرف، يقتضي التحقيق والتدقيق والتثبت، ومراجعة ملفات البنوك والمؤسسات وملفات لوبيات المال والأعمال. ولا يجوز، في هذا الخصوص، التدخل في عمل القاضي، أو تقييده بمدة زمنية قصيرة، للبت في كل القضايا، فلكل جناية تفاصيلها وظروفها، وأدلة الإثبات والنفي في شأنها. ومبادرة الحكومة التسريع في طي ملف رجال الأعمال مدار الشبهة (6 أشهر على أقصى تقدير) فيه سعي إلى التغطية على الحقائق، وضرب مبدأ الفصل بين السلطتين، القضائية والتنفيذية، ومحاولة سافرة لتمكين الجناة من صك غفران على جناح السرعة.

ومن الناحية الدستورية، يعتبر مشروع قانون المصالحة الاقتصادية خرقاً واضحاً للدستور التونسي (يناير/كانون الثاني 2014) الذي نص صراحة، في الفقرة التاسعة من الفصل 148، على أن "الدولة تتحمل واجب الالتزام بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها، والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها". ومعلوم أن هيئة الحقيقة والكرامة تعدّ الهيئة الدستورية المكلفة عمليا بالنظر في ملفات المدانين بالاعتداء على المال العام، ذلك أنها لا تهتم بالنظر في قضايا التعذيب والاستبداد السياسي فحسب. بل هي معنية بالنظر في كل أشكال انتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك انتهاك حقوقه الاقتصادية. ولجنة المصالحة المنبثقة عن الحكومة تُنازع، في الواقع، هيئة الحقيقة والكرامة صلاحياتها، وتلغي جهودها في استكشاف الحقيقة، وتقفز على مسار المساءلة والمحاسبة، لتمر مباشرة إلى المصالحة، بحجة إعادة العافية إلى الاقتصاد، ولو كلف ذلك التسامح مع من نهبوا أموال الشعب، واستنزفوا الخزينة العامة للدولة. وتكمن خطورة قانون المصالحة في أن أحكامه "تلغي جميع الأحكام المتعلقة بالفساد المالي، والاعتداء على المال العام الواردة بالقانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013، المؤرخ في 24 ديسمبر/كانون الأول 2013، المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها". وفي ذلك إحداث هيكل مواز للعدالة، وضرب لهيئة الحقيقة والكرامة في مقتل، وخرق للدستور، وإهدار للمال العام لا محالة.
من الناحية الحقوقية، يضمن القانون مدار الخلاف الإفلات من العقاب للجناة، ويتجاهل حق الدولة والمواطنين في تتبع المخالفين عدليا، ويصادر مطلب الكشف عن الحقيقة، وحق النفاذ إلى المعلومة لمعرفة تفاصيل استيلاء بعضهم عن المال العام، ويؤسس لفوضى عدلية مؤداها وجود "هيكل عدلي"، خاص بحماية الأثرياء والموسرين وتبرئتهم، وهيكل آخر خاص ببقية المواطنين وعموم المستضعفين.
ومن منظور أخلاقي، لا يعزز ما يسمى قانون المصالحة الاقتصادية ثقة المواطن بالدولة كما يروج له. بل على النقيض من ذلك، يزيد من استفحال أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويُبرز أجهزة الدولة في مقام من يتولى حراسة لوبيات الفساد المالي، وتحصين "عصابة السراق"، فبدل أن يعتذر الجناة للشعب، ويحاسبوا على ما اقترفوا في حق الناس، يتم توظيف السلطة وإعمال القانون، لتبييضهم وتبرئتهم، فيزداد الغني غنى، ويزداد الفقير فقرا، وتسقط أخلاقية الدولة، ويذهب حلم العدالة أدراج الرياح.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.