تنّور

14 اغسطس 2019
رضا دركشاني/ إيران
+ الخط -

السيارة البيضاء إيرانية الصنع والمزاج "بايكان" تمشي على جلد الطريق الذي تصبّرت بشرته من صقيع الليلة الماضية.

بايكان متكور داخل سترته الووتربروف المنفوخة، يُصدر أنفه شخيراً بسيطاً يتماشى إيقاعه مع الحَوْر الذي يقف حارساً الطريق من الضفتين. نفسُ الإيقاع لسرعة السيارة وسرعة الشخير. ونينار تحت شادورها تنظر إليه نظرة أمومية تميز الحبيبات اللواتي يعشقن رجالهن حتى البنوّة.

السائق حليق اللحية والذوق يدخن سيجارة الباهمن القصيرة التي تبدو كسيجارة مراهقة عن بعد ولكن رائحتها العجوز تُنتن ما حولها.
صوتٌ رخيم يغني الخيّام بلغته الأصلية.. ولكنه لا يزال غريباً عن هذا الجو العام. كل ما في هذا المكان فارسي حتى النخاع.
السيارة والشادور والشخير والحور والسائق والخيام الآتي من ذلك العصر الفلكي..

"سأسرد له كل ما دار في بال الحكاية يوماً ليبقى فارسيا وشهرياري الذي يقتل نفسه لأجلي كل صباح..".
خبز الطريق المتطاول رغيف الحكاية التي حضّرتها..

"منذ ألفي سنة وأكثر، كانت العجائز في بايكان يدخلن الخيوط في عيون الخرز الملوّن ليصنعن عقوداً قالت عنها الجدات يوماً إنها تدخل كالخيوط في عيون قلوب العذارى...
وكانت موران عذراء.. وكان بهرامي يلعب بوبرٍ نامٍ على شفته حديثاً..
أوقدت موران نارَ التنور الطيني لتخبز.. وأوقد بهرامي صباحه لها لتدخنه رويداً بنظرات مختلسة بين كلّ رغيف ورغيف..
"لو أستطيع عجنكِ ورميكِ في تنور قفصي الصدري لنضجتِ في ثانية.."، قال.
"لو أستطيع أن أغزل الوبر الناعم على شفتكَ خيوطاً، لصنعتُ لك عباءةً تنوراً تقيكَ هذا الصقيع.."، قالت.
"فرسا بيضاء عربية حتى الجد العاشر كان مهرُها، وسجادة قَطَعَ نَوْلُ نَسْجِها عشر أصابع على الأقل..". قال الأب المرتاح على كرشه وقرابته من الدرجة العاشرة بالملوك الغابرين الذين دخلت جينة زرادشت بالخطأ المقصود في حمضهم النووي.

بهرامي الممسوس بالخيل وموران والسفر، قرّر الارتحال إلى بلاد العرب القاحلة لجلب مهرِ عروسه ذي الأرجلِ الأربع الضامرة الرُّكَب.
ودّع الأهل المنذهلين بشهوة ولدهم وجنونه، فلذةَ كبدهم.

لفّت الأم خيطاً أبيض جلبَتْه خصيصاً من المعبد حول خصر ولدها النحيل.. قبلت جبينَه وبكت.
سيارة بيضاء مجنونة زعقت عجلاتها من احتكاكها مع الأسفلت كادت أن تُحطّم مقدمة السيارة، بعثرتْ الحكايةُ وغفوةُ بهرامي الخفيفة في حِجْرِ الفزع.. طاشت الحكاية على شفاه نينار التي أمسكت رأس حبيبها وضمته إلى صدرها.. أمسكته وتمسّكت به..

شتائم كثيرة تناثرتْ من فم السائق دون أن يكلِّف نفسَه نَزْعَ السيجارة، العجوزِ الرائحة المراهقةِ القياس، من زاوية فمه، لكنه تابع فوراً حديثَه للرجل الجالس في المقعد الأمامي دون أن ينتبه إلى قلبه الذي طار وعاد إلى عُشّهِ في جزء من الثانية..

- أنتَ من بلاد فارس الطائرة على بساط الأغاني والقيان والسيوف"، سأل الرجل المدبّبُ الأنف كالعُقابِ من على فرسه..
- نعم أنا من هناك.. وجئت أطلب مهرَ عروسي فرساً ترقص على الناي مثل سحرة الهند وأفاعيهم"، قال بهرامي الراكض خلف مَهْرِهِ الفرس..
- إذاً عُدْ من حيثُ أتيت.. فالعربية الفرسُ لا تُرخي زمامها لمن لا يعشقها... ألجَمَ الفارسُ العُقابُ الأنفِ خيلَ أحلامِ بهرامي لهنيهة.. ثم أخرج رأس المزحة من بين ضحكاته المتواصلة الملعلعة مخففاً عن بهرامي..

حكى بهرامي للرجلِ العُقابِ في تلكَ الليلة عن موران وعشقه وفارسَ وسحرتِها وأغانيها المعلّقة على أكتاف الأوتار المصطفّة جنباً الى جنبٍ تُضرَبُ بالعصي المستدقّةِ الأطراف فترقِّصُ الجنّ والإنسَ والغربان المُبيَضّةِ الصدور..
لم يصدق العُقابُ بياض صدور الغربان الفارسية.. لكنه بات ليلته تلك يفكر بالأوتار والعيدان التي تُرقِّصُ الجن والإنس..

حكى في صبيحة تلك الليلة التي قضياها في بطن الصحراء -الطريق لبهرامي عن خيلٍ سَحبتْ صاحبَها من البئر التي رماه فيها قطاع الطرق.. وعن فَرَسٍ أخرى حملت بين أسنانها لفّةَ رضيعٍ مغمضَ العينين سرقَتْهُ الذئاب وركضت به في كحل الليل عن صدر أمه.. أعادته سالماً إلى الصدر الذي افتقده ونَشِفً حليبُهُ قهراً على فراقه..
صدّق بهرامي كل ما قال العقاب وتابعا طريقهما يفكر كل منهما بما قصَ صاحبه
- كيف النساء في فارس يا بهرامي..
- إذا وصفتَ لي نساء العرب وصفتُ لكَ نساء فارس
أحجمَ العُقاب قليلاً.. ندمَ على السؤال.. ثم استرسل بعد فترة دون سابق إنذار..
- العربية كفلٌ يحملُ خصراً يميسُ مع كل خطوة.. العربية صدرٌ يُرضِعُ أطفالكَ العشرة ويرضعكَ ولا ينتهي.. العربية سكينٌ إنْ عشقْتَها غُرزتْ في قلبك ولن تتخلص من كُحلها ولو ذرفتَ مياه البحر قصائد.. العربية نظرةٌ تأكلك وتزلزل فقرات ظهرك.. العربية من لا تُسبى إلا وتُشعل حرباً تنزُّ نهراً من الدماء لا يسدُّه صلح.. العربية جَمَلٌ في سنامه ماؤكَ وريُّ عطشكَ.. وفي قلبه غدرٌ قد يشوي قلبكَ ويأكلُه مملَّحاً إن غدرتَ به..
فكّتْ تشبيهاتُ العُقابِ المجنونة عُقدةَ لسانِ بهرامي وأمسكَ سُبْحَةَ تشبيهاته من شاهدتِها وبدأ..
- الفارسيةُ خصرٌ لينٌ وزق خمرٍ لا ينتهي.. الفارسية أصابع تمددّتْ في بياضها.. الفارسية أنفٌ لا يُخطئ رائحة ذكَره.. الفارسية لِينُ العريكةِ في سريرِ الحب.. وتَكبُّرُ الآلهة في حُبّها لعشيقها.. الفارسية جنونُ الأحبارِ على ثلجِ الكتفين وربلتيْ الساقين.. الفارسية نورُ العالم وظلامه في كائنٍ لدِنٍ لا يشبع..

تشابكتْ أحلامُ الرجلين النازفينِ التشبيهاتِ على عقولِ بعضهما البعض.. وتراءت لكل واحدٍ منهما معشوقةً لم يشبعْ بعدُ من وصفِها..

أوقفَ الرجلُ صاحبَ الدراجةَ الناريّة واللحية الخفيفة محددةِ الأطرافِ سيارةً البايكان البيضاء والحكاية والراوية..
قال بنبرةٍ متعاليةٍ وصوتٍ أشبهَ بدجاجة: "أغلقْ فمَ هذا المهذار المذياع وأعطني الرُّخص.. أعطني ورقةً تثبتُ أنك زوجُها.. أنت.. أين بطاقتك.. أين دفتر الميكانيك.. لماذا تدخن في السيارة.. أين بطاقتك.. بسرعة ليس لدي النهار بطوله.. ضبّي شادوركِ جيداً.. أنتِ لستِ في منزلكِ.. أين بطاقة إقامتك..أنت عربي..لا يا حبيبي هذه ليست صحراء وأنتَ لستَ عُقاب.. لا بد أنك متسلّلٌ من العراق دون أوراقٍ ثبوتية".


* كاتب سوري

المساهمون