تماماً كما يصعب التخلّص من مذاق طعام، يصعُب التخلّص من مذاق النصوص، خصوصاً حين تُشحَن بقراءات ورمزيات وأحكام مسبّقة. لعل ذلك حالنا مع محمود المسعدي في تونس، فقد كرّسته المدرسة والجامعة والنقد كحالة سلطوية توازي المواقع التي شغلها في الدولة كوزير للتربية والثقافة، ثم كرئيسٍ لمجلس النوّاب.
ظلّت نصوص صاحب "السدّ" بعبوسها وتعقيداتها، واقفة كمصفاة أعدّتها الدولة بمعايير انتقائية، توجز فكرتها في من يصلح للالتحاق بالنخبة: أرجلٌ في الثقافة العربية ورأس يرى بأن الأفق هو الغرب.
لم تكن صُدفةً أن يحدث ذلك مع نصوص المسعدي تحديداً؛ فقد جرى الادعاء أن بناء الدولة بعد الاستقلال يقتضي زعيماً وأباً أوحدَ في السياسة، وكان هذا يحتاج معه فوق المنصّات آباء آخرين (متفرّعين عنه) في جميع المجالات.
جرى تنصيب المسعدي أباً للأدب في تونس، فكانت نصوصه مثل تعاليم الأب التي تحوّلت، لعقود، إلى نص مركزي تأسّست حوله شبكة من القراءات الجاهزة والعلاقات، وعطّلت نمو ما هو خارجها، أو ابتلعته.
طبعاً، لم يبق لنص المسعدي اليوم سطوته القديمة، لكن علق فيه طعم السطوة والسلطة. وكلما انطفأت الأضواء حوله، كلّما ظهر النص أكثر، لكن فقط لمن أتاه بعد أن أفرغ كأساً مُلئت بقراءة جاهزة قُدّمت له وهو على مقاعد الدرس، قبل أن يبدأ في بناء تمثّله للعالم.