تلك الأغنيات العتيقة

20 سبتمبر 2014
+ الخط -

من باب التمسك بفسحة الأمل التي تحول دون ضيق العيش في ظل واقع عربي عصيب، لا يبعث سوى على الريبة والذعر، ثمة يانصيب صغير لا يخلو من سذاجة، أجريه بواقع يومي، لكي أتمكن من تحديد طبيعية علاقتي بالنهار من أوله، منعاً للالتباس وللحيلولة كذلك من الإفراط في التفاؤل المبني على أسس غير واقعية، ما يمنحني فسحةً كافيةً، كي أقرر ما إذا كان نهاراً جديرا بالمحاولة من حيث المبدأ. حال استقراري خلف مقود سيارتي المتواضعة، وعلى الرغم من توفر المسجلة، وتشكيلة كبيرة من الأشرطة المختارة، أدير الراديو على محطة مختصة ببث الأغاني العتيقة، واعتبر أول أغنية تطرق سمعي بمثابة حظي لليوم. وكذلك أتسلمها رسالة شخصية تشي بمسار النهار كله، فإذا كان حظي سخياً، تكون فيروز أول ما أسمع، ولا بأس إذا أطل نصري شمس الدين، أو المطرب الأردني البديع، توفيق النمري، يشكو من (المزيونة التي سكنت قلبه وتلاعبت به).
 أتذكر أننا صغاراً، كنا نلعب لعبة شبيهة، في أثناء برنامج "ما يطلبه المستمعون" على الإذاعة الأردنية، فيختار كل منا حظه مسبقاً من الأغاني، ويتعرض للسخرية إذا تبين أن حظه كان مائلا! أما من  تبتسم له الدنيا فعلاً، فهو من يرد اسمه، ولو مستعاراً  ضمن القائمة الطويلة لأسماء المهدى لهم، والتي تقرأها المذيعة بإخلاص شديد، هي لعبة بريئة ويائسة بعض الشيء، تشبه، إلى حد بعيد، التأمل اليائس والمحاولة المضحكة، لتفسير تلك التشكيلات الغائمة من البن المحروق المترسب في فنجان قهوة  مشروبة على الريق، وترجمتها إلى أحداث مبهجة في طريقها إلى الحدوث، وتشبه أكثر  إصراري غير المنطقي على قراءة ما يقوله الفلك لمواليد برج الجوزاء، على الرغم من تناقض التنبؤات وتكرارها، بحسب صديقةٍ لا تفقه حرفاً في علم الفلك،  كانت وظيفتها كتابة حظك اليوم في صحيفة كبرى!
ليس إقراراً بالشيخوخة، لا سمح الله، غير أني حاولت (كسمّيعة) انتمت إلى جيلٍ فائق الحساسية والرهافة والاشتباك مع الفن الراقي المترفع المعتنق للجمال والأصالة، حاولت تذوق واستيعاب وتفهم ما ينتجه أبناء هذا الجيل من الغناء، وباستثناءات قليلة جداً لتجارب فردية، تمكنت من النجاة من كل ذلك الإسفاف والانحدار. ويمكنني القول إن فن الغناء العربي إلى تدهور وابتذال وخفة وتسطيح وقبح، أيضاً، وقد ساهم فن الفيديو كليب بهذا التردي والاستسهال وصعود أصوات نكراء، لا يتعدّى مكانها الطبيعي خشبات نوادٍ ليلية درجة عاشرة، حيث مخمورون لا يتوانون تحت تأثير النشوة الكحولية عن (الانطراب الأبله) بصوت مواء قطة، ما يؤكد أن القائمين على هذا الفن فاقدو الأهلية والثقافة والذوق والحس الفني. ومعاييرهم لا تتعدى الربح والخسارة، وما يفسر كذلك هذا الكم من البذاءة والاعتداء والتشويه، بل والتآمر على الذائقة الجمعية برمتها.
من هنا، يظل لسماع الأغنيات القديمة العذبة دواء وعزاء وفسحة فرح حقيقية، لا بد منها في ظل ذلك السواد كله، وتصبح الحياة أكثر احتمالاً، حين يأتي صوت كارم محمود رخيماً، وهو ما أخذ حقه يوماً، يردد بكل شجن ممكن (عنّابي يا عنّابي)، فيضجُّ الشوق في جنيات الروح المتعبة، ويزيد أكثر، حين تصدح عفاف راضي بصوتها الأنثوي الذكي الحنون، لتؤكد للحبيب أنه لا يغيب عن البال، في كل الأحوال والمقامات. وتنهض العذوبة من مرقدها على وقع أغنية شادية، ربة الدلال والشقاوة،  (قولوا لعين الشمس ما تحماش).
ويواصل عبد الحليم بصوت مكتظ بالحنين والأسى الشفيف احتفاليته بحالة الحب، باعتبارها أجمل مصادفة! ما يعنينا على احتمال هذه المرحلة الناشزة من زمان عربي مجحف، غلبت عليه ظلال العتمة.

 

 

دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.