تلطفوا في قتل ذبائحكم

18 مارس 2015
+ الخط -

مساحات من الصمت تقابلها اجتهادات لاجتذاب جسد من فراش، لو نطقت عيونهن لوبختني بحديث غير منطوق، أحاديث فحواها "هو إنتي صحفية فعلا ولا بتشتغلينا!". فلا فضول ولا شغف لدي لمعرفة تفاصيل اعتقالهن، بل ولا أطيق سماع آنين أي منهن وهي تروي ملابسات اعتقالها، فأستدير بجسدي في تجاهل مقصود.
في كل طرفة عين لا يمل عقلي من استجلاب مشهد في الذاكرة، لعربة ترحيلات مملوءة بالجنائيين، رجال لا يكفون عن التدخين ولا يملون من تجاذب أرذل الكلام، زجاجات صفراء أسفل قدمي، بتلقائية منقطعة النظير، جذبت واحدة منها لأتفحصها، كنت أعتقد أن اللون الأصفر دلالة على أن الماء "غير صالح للشرب".. الرائحة أرشدتني إلى حقيقة الزجاجات، والتي تعد "حماماً متنقلاً" يقضي الجنائيون حاجاتهم فيها ويتركونها تذكاراً لزملائهم بجلساتهم المقبلة.

في عربة شبيهة، مات زميل فريق فكرة محمد الديب، أحد ضحايا عربة ترحيلات سجن أبو زعبل، بعد احتجاز دام ست ساعات داخلها، بيدين مكبلتين وجسد مبلل بالعرق يعافر وهو يحترق، بقنابل الغاز السامة التي وضعتها قوات الأمن داخل العربة بقرار إبادة جماعية لـ 37 معتقلاً سياسياً، خلال نقلهم من قسم الشرطة في مدينة نصر في القاهرة إلى سجن أبو زعبل، يوم 18 أغسطس/آب 2013.

مات الرجال واقفين في عربة شرطة ضيقة، أجسادهم تتفاعل مع لهيب الغازات، كالذبيحة يتخبطون ويصرخون، حتى قضى الموت عليهم وفاضت أرواحهم وهي تلعن من في الأرض جيمعاً..

يا دولة فاجرة.. يكفيكم إن أردتم لهم الموت أن تتركوهم يموتون من صهد الحر عطشاً.. لا بالكي والحرق. لم أكن أتصور حجم المعاناة التي وجدها ضحايا عربة ترحيلات أبو زعبل، إلا حينما تبادلت معهم الأدوار، وأنا أتلوّى "بلا قنابل" من فرط الاختناق، هي حقاً عربة موتى، لا يمل راكبوها من ترديد جملة واحدة لا ثاني لها "عاوزين نتنفس.. هنموت".

كشف عذرية ونزع ملابس

في صباح يوم الثلاثين من يونيو/تموز 2014، كنت أفترش أرضية زنزانة المعتقل، أبحث عن طعام بين صناديق الفاكهة تحت السرائر، فإذا بأربع فتيات أزهريات ممن حضرن واقعة اغتصاب زميلتهن ندى أشرف، يتقدمن تجاهي "تعالي يا سماح اشهدينا".

يتحدثن بهدوء منفعل، بشكل عشوائي متداخل "ينفع يعني كده، ندى أشرف ظهرت إمبارح في مداخلة جريئة على شاشة قناة الجزيزة، وبتتكلم عن تفاصيل اغتصابها داخل مدرعة الشرطة!".

اختلفت مواقفهن ما بين مؤيدة ومعارضة لظهورها إعلامياً، فترى إحداهن أن الحقيقة لا بد لها من ظهور، وأخرى تنتقد روايتها الخادشة للحياء، وثالثة ترى أنها الضحية الأولى والأخيرة بتداول قصة اغتصابها، والذي يظهر كأنه مشهد من مسلسل، يتاجر به الإعلام وآخرون كيفما يشاؤون، والنتجة النهائية للفتاة "التشهير".

تركت ما بيدي وانتبهت إلى حديثهن وهن يسردن ما حدث في ذلك اليوم، تقول إحداهن: "كان يوماً عصيباً، شهد مسيرات احتجاجية حاشدة لطالبات الأزهر داخل أسوار الحرم الجامعي، لإعلان موقفهن الرافض للانقلاب العسكري على الشرعية الديمقراطية".

تستكمل الحديث وكأني أرى "قنابل الغاز المسيل للدموع تملأ ساحة الحرم الجامعي، البنات يفررن وهن يرفعن لافتات تهاجم الشرطة والداخلية، تتعالى الهتافات ضد النظام، يقابله تصعيد أمني بدخول المدرعات لملاحقة الطالبات، عساكر وضباط ملثمون يصطادون الفتيات من أحجبة رؤوسهن، ويقتادوهن إلى المدرعات".

في ذلك النهار لم يتوقف الملثمون عن جر الفتيات كالقطيع بوضع رقابهن أسفل أكتافهم، ونعتهن بأوصاف خادشة للحياء.. هنا ثارت "ندى أشرف" لم تتمالك الفتاة أعصابها عندما رأت إحدى صديقاتها تضرب بمواسير حديدية، فتوجهت إلى الضابط وهي تردد بصوت عالٍ: "هو أنت فاكر نفسك كده راجل". ترك الضابط الفتاة التي يضربها ونظر إلى فريسته الأخرى قائلاً "أنا هعرفك إني راجل ولا لا دلوقتي"، فقام باجتذابها من ملابسها وجرها إلى المدرعة.. "Cut" فالمشهد ليس للتصوير اللفظي.

حدث الاغتصاب.. اغتصاب كامل أمام أعين العساكر، وأعين زميلاتها المعتقلات اللاتي تمنيّن أن يمتن الآن، ولا تمس أناملهن، عسكري واحد هو من ظل يبكي ويردد في ذهول "حرام عليكم.. سيبوها"، أما البقية فيضحكون ويتبادلون أحاديثهم الساقطة.

الإهانة اللفظية قد تبتلع رغم صعوبة بذاءتها العالقة بآذن لا تحتملها، ولكنها أمام "إهانة عرض" لا شيء.. أن ترى فتيات بعمر الزهور يتعرضن لكشف عذرية ويجبرن على إجراء تحليل حمل! ووصفهن ببنات نكاح، أمر لا يطاق، وتعدٍّ سافر لحدود الله في أرضه، فرصاصة في صدر أحدنا أهون لدينا من تلك التعديات الفاجرة، وكبائر الفواحش الأخلاقية، جرائم لا تسقط بالتقادم أو تغفر بالاعتذار.

في قسم الأزبكية تعرضت زميلات الاعتقال لجلسات تعذيب ممنهجة، تهديدات بالاغتصاب، تحرش وضرب مبرح، بل وصل العهر الأمني إلى حد قيام أحد الضباط بنزع ملابس معتقلة تدعى "صفاء حسن"، طالبة في الصف الثالث الثانوي، وضربها بعصا حديدية على مناطق متفرقة في جسدها، حتى تورمت قدماها من شدة التعذيب للاعتراف على أسماء منظمي إحدى التظاهرات.

أما دارين مطاوع وصديقاتها الثلاث عائشة عبد الحفيظ، فاطمة بهاء الدين، عائشة فؤاد، فكن من ضمن الأفواج التي تعرضت أيضاً للتعذيب في قسم "الأزبكية" فور اختطافهن خلال وقفة احتجاجية لطالبات الأزهر، اعتراضاً على اعتقال زميلتهن "كريمة الصريفي".

أكشن الداخلية الهزلي، في جلسة العرض على أمن الدولة، مكرر لا ابتكار فيه، نفس الصورة النمطية الذي نشاهدها في التلفاز لضابط أمن الدولة التقليدي وهو يتعامل وكأنه أذكى رجل في الأرض، وتكشف أسئلته عكس ذلك، قاموا هناك بتعصيب أعينهن لفترة، كمحاولة منهم للتلاعب بأعصابهن، وهن يسمعن خطوات لقدم تقترب منهن، ولاعة تشتعل بالقرب من وجوههن، بأصوات تعلو وتنخفض، ودوائر دخان تتطاير تصاحبها أصوات مياه تنسكب، لا تطرح الأسئلة المقررة على كافة المعتقلين السياسين إلا بعد استيفاء المؤثرات الصوتية السابق ذكرها، بصوت أجش يتحدث "قوليلي يا فلانه يا بنت الــ....، انتي نزلتي رابعة! وياترى بقي انتخبتي مين، مرسي ولا شفيق؟ إيه رأيك في اللي بيحصل في البلد!"

قد يتجاوز الأمر ليصل إلى حد مد الأيدي، مثلما فعل بالمعتقلة هند منير خلال التحقيق معها في مبنى أمن الدولة، فقام رجل الأمن بنزع حجابها، وهي معصوبة العين وجرّها من شعرها، لخبط رأسها بأعمدة "درابزين السلم الحديدي" وبضربات متلاحقة، سالت الدماء من وجهها وهي تصرخ "أنا مكنتش خارجة أتظاهر يا بيه، والله أنا كنت بسعف مريض"، وهو يتوعدها، "أنا ممكن أقتلك وأرميكي في أي مكان ومحدش يعرفلك طريق".

هذا بخلاف التوبيخ اللفظي، وإهانة الآدمية، بمنع دخول الفتيات الحمام، وحبس أجسادهن عن قضاء حاجتهن لساعات طويلة، ومحاولات أخرى لخدش حياء المعتقلات بكلمات يعف اللسان عن ذكرها، ولعل أكثر المواقف استفزازاً، ما حدث للمعتقلتين "س. ر، ش.أ" عندما أعطى أحد الضباط لهن أكياساً قائلاً لهن "اتكيسوا هنا.. عشان مش كل شوية تزعجونا".

يا دول العالم شرقاً وغرباً، لا تتدخلوا في الشأن المصري، وإن انتهكت الأعراض، دعوا رجال السيسي يغتصبون نساءنا في صمت، وإن أردتم أن تشاركوهم فاستمعوا لتبريرهم، وأضيفوا عليه المحافظة على العلاقات الدولية بتقطيع التورتة وتبادل الهدايا، أرونا كيف تتجسد فيكم الخسة وأنتم تؤيدون ذبحنا بسيوف العروبة، فالموقف وهيبته أمام تخاذلكم، لا تشيب منه الرؤوس فحسب، بل وتهتز له الجبال ومن فوقها سبع سموات.

مواجهة الإرهاب بالاغتصاب! أسلوب نظامي تتزعمه حكومة مصرية تدعي محاربة إرهاب التيارات الإٍسلامية بمدنيّتها، فنجدها هي من تنتهك أعراض النساء في وضح النهار في أقسام الشرطة والمدرعات والسجون.

المساهمون