تكسر المنظومة الاجتماعية

21 ديسمبر 2015
+ الخط -
ينهمكُ العالمُ في البحثِ عن حلٍّ سياسيّ أو عسكري ينهي المأساة السورية التي طالَ أمدها، وفي الوقت نفسه، يغفلُ العالم مشكلة المعنيين بالحلّ السياسي. ثلاثة وعشرين مليون سوريّ بكل ما يحملونه من حاضرٍ ومستقبل، تلك هي مشكلة تكسّر نظام الطبقات الاجتماعية السورية وأزمتها الكبرى التي تتركّزُ علی كيفية الحفاظ علی الوجود، وحفظ ملكية الأرض والهويـّة والثقافة، ولعلّ أهم تلك المشكلات تنحصر في ثلاث، إنْ لم تؤخذُ بعين الرعاية والبحث الدولي عن حلولٍ لها، فلا جدوی لأي حل سياسي أو عسكري.
أولا: معروف أن النظام الطبقي في سورية قبل مجيء الناصريين والبعثيين كان إقطاعيـّاً مبنيّاً علی حيازة الإقطاعي مساحات واسعة من الأراضي، ورثها من تركة العثمانيين قبل رحيلهم، فجاء الحكم الناصري بقانون الإصلاح الزراعي التي نزع الملكية الفردية من هؤلاء الإقطاعيين، وملّكها للدولة التي قامت بدورها بتأجيرها للفلاحين من دون أن تعطيهم سند ملك لها، وكذلك سار البعثيون علی خطی الناصريين، وزادوا عليهم، إذ نزعوا الشركات والمعامل الكبرى من مالكيها، ونسبوا ملكيـّتها للدولة، وبقيت تلك القضيّة معلّقة من دون حل لها، يطفئ جمرها الذي ينسُّ في بيادر المجتمع السوريّ، من حينٍ إلى آخر، إلى أن قامت الثورة السوريـّة، فرافقتها أصوات إقطاعية، بدأت تطالبُ بإرثها القديم، ولسوءِ تنظيم المستندات وعدم مواكبتها للتطوّر التقني في المؤسسات الحكومية، وعدم ربطها بشبكات الكترونية إلى الآن، فإنّ الاستيلاء بالقوة أمرٌ ممكنٌ في ظل سيطرة القوی العسكرية غير المنظمة، وفي مقدمتها ميليشيات النظام التي لم تعد تحمل اسم القوات الحكومية، ولو في السنتين الماضيتين كأقل تقدير، وما يخيفُ أكثر هو فراغ سورية من أربعة ملايين نسمة في الخارج أو يزيد، وسبعة ملايين نسمة نزحوا من موطنهم إلى مناطق سوريـّة أخرى.
اليوم النظام السوري الوحيد الذي يملك بقايا المؤسسات السورية، ويستطيع التلاعب بكل العقارات في ظلّ الحرب والفراغ السكاني، من دون أن تكون هناك أي جهة تستطيع أن تراقبه غير الضمير الوطني، ومن قتل وشرّد ليس صعباً عليه أن يجرد الشعب مما يملك، وما يحصل في حمص ودمشق من بيعٍ وشراء وهميين للممتلكات كارثةٌ ستبرز آثارها بعد سقوط النظام حكماً، حيث لا وجود لإثباتات ملكية إلا في دوائر النظام.
ثانيا: لم تبتلَ الثورة السورية بأعظم من إرغامها علی لبس الثوب الطائفي الذي لا يناسب هويتها السورية، أو طبيعة أهلها، فتهافتت عليها التيارات الدينية الخارجية، بدعوی الجهاد والبحث عن الحلم المفقود من القوی الشيعية الباحثة عن مهديها المنتظر، وقوى تنظيم الدولة الباحثة عن الخلافة الضائعة، فانفتح الباب السوري علی مصراعيه لتدخله جنسيات من شتى أصقاع الدنيا، بغرض الاستيطان والإقامة الدائمة، مستفيدين من قانون المَشاع الذي كرّسه رأسا الإرهاب: بشار الأسد وأبو بكر البغدادي، إذْ لمْ يختلفْ الرجلان علی أن الأرض يملكها الأقوى، فالأول قال إنّ الجنسية السورية ليست لمنْ يحملها، بل لمن يدافع عنها فاتحاً باب التجنيس لكل من يأتي لمساعدته في تثبيت ملكه، والثاني أوّل الثابت الدينيّ بحسب هواه عندما أكد أن الأرض لعباد الله الصالحين، حسب مقياسه، فملّك الأرض كل من سعی للدفاع عن دولته. وبين مفهوم هذين الرجلين، نُسِفَ شعبٌ كاملٍ. وها قد مضت خمس سنوات وسورية توافد إليها آلاف من الأجانب مع أسرهم، فعاشوا فيها في ظل الحرب، ولو طالت الحرب لخرج جيل أجنبي، لم يعد يعرف غير سورية موطناً لهُ، فهل تساءلَ العالمُ ما مصيرُ هؤلاء، وكيف سيثبت جنسيتهم بعد مقتل آبائهم واندماجهم بالمجتمع؟
ثالثا: ما حصل في سورية لم يحصل في أي بلدٍ عربي، حتى العراق في أسوأ ظروفه لم يصل إلى مستوى المعضلة السورية، إذ لم ينزحْ العراقيون عن بلدهم كهذا النزوح السوري، في ظل وجود صدام حسين، إلی أن جاء الغزو الأميركي، وأسس نظام دولة، على الرغم من هشاشته وطائفيته، إلا أنه تأسس، والمؤسسات العراقية تركها عهد صدام علی حالها، ولو قورن الوضع السوري بالوضع الفلسطيني، لما وجد بينهما شبه، إلا من حيث اغتصاب الأرض الذي تعرض له الشعبان، إلا أن الوضع الفلسطيني واضح المعالم، فالقضية بين صهاينة جاءوا بلون دينيٍّ واحد اغتصبوا أرض شعبٍ عربي، أما في سورية فهويـّة المغتصب هلاميـةّ.
عادت سورية إلی ما قبل تاريخ الدولة الحديثة، ولازال العالمُ يتخبط بالبحث عن حلول تصبُّ علی أرضٍ خطوطِ تكوينها تلاشَتْ، فحريٌّ بمنْ يريد نجاح الحل أنْ يلاحق آثار الخطوط المتلاشية، ويعيد رسمها بعد ذلك يقدم حلاً يتناسب مع تفاصيل المشكلة، بدلاً من وضعِ حلول لمشكلة مبهمة كاللغز.
4DFBF7BD-D8BB-4820-B299-86C9DB24D52C
4DFBF7BD-D8BB-4820-B299-86C9DB24D52C
فاروق شريف (سورية)
فاروق شريف (سورية)