تقوم الرحلة على فكرة المسافة، أكثر من قيامها على الوقائع الجغرافية. وبعيداً عن الحاجات الاقتصادية والكوارث والحروب، يمكن النظر إليها أيضاً كعملية فكرية تاريخية أضفت معاني وجودية وفلسفية على عراك طويل بين الإنسان وكتلة أكبر منه اسمها الأرض. تاريخ العالم نفسه يبدو تاريخ "رحلات"، تؤسس حضارات وتُبدّد أخرى.
في المسكن الجبلي لصاحبة رواية "توجي" (الأرض) الكاتبة الكورية باك يونغ-ني الذي حوّلَته إلى مقرّ إقامة للكتّاب في آخر حياتها؛ قرأتُ، ذات صباح يبدو الآن بعيداً، ترجمة لأشعار راهب بوذي غير معروف، وتوقفتُ طويلاً عند مقطع يمكن استعادته بالصياغة التالية: "لِمَ نقول رحلةٌ ورجوع.. والأرض واحدة؟".
إشراقة البيت تقلب كل مفاهيم الرحلة ببديهية أن الأرض واحدة. ولعل ما يصنع الرحلة فعلاً هو افتراق الإنسان عما يألف، مكاناً وبشراً، وخشيته مما أسماه "الفراق الأبدي". أما الأرض فهي، على الأرجح، وسيط محايد.
نتذكّر الآن مأثورات تخفّف من جموح المزاعم المعرفية للرحلة وفولكلور الإعلاء من شأنها.
وإذا كان فنان عصر النهضة الفلورنسي سجّل في يومياته جملة عن استطاعة إنسان معرفة العالم بتأمل سقف غرفته؛ فإن حافظ الشيرازي، كما تقول الروايات، لم يغادر مدينته عمره كلّه، وأُثر عنه قوله، حين هم مرّة بمغادرتها وسرعان ما غيّر رأيه: ما معنى أن أذهب لمعرفة العالم وأنا بعد لم أنته من معرفة شيراز.