تعويذة الخائبين.. الاستنجاد ببورقيبة

19 ابريل 2015

يحتار الساسة في وصف بورقيبة: مستبد أم متنور (Getty)

+ الخط -

يحتد الجدل في تونس، هذه الأيام، بشأن تصريح لمستشار رئيس الجمهورية، القادم من معطف الحداثة اليسارية الطلابية، يبشر فيها التونسيين أن الرئيس الباجي السبسي أعطى الإذن بإعادة نصب تماثيل الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، في شوارع المدن وساحاتها، وكانت قد أزيلت واختفت نحو ثلاثة عقود، بتعليمات من الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي آنذاك.

لم يدرك جيل الشباب الحالي الذي تنسب إليه الثورة الزعيم بورقيبة، وربما اكتشفه بعيْد الثورة، بعد أن أصبح ذكره وعرض سيرته مسموحاً. فلقد اختفت بعيْد الانقلاب، في أقل من أسبوع، تماثيله وصوره وتوجيهاته التي كانت تبث يومياً في الإذاعة والتلفزة، وكذا مئات الأغاني عن خصاله. اختفى بورقيبة عن الأنظار نهائياً، بعد الانقلاب، ولم يظهر إلا في مناسبتين تقريباً، في مظهر بائس لا يليق برئيس جمهورية حكم البلاد، وكان ذلك تنكيلاً بصورته. كانت الصور القليلة التي تم تمريرها في التلفزة الوطنية تسويقاً لشفقة بن علي على رجل غيب المرض عقله وجسده. لم تثر تلك الرسالة القاسية، في حينها، أي ردود أفعال من البورقيبيين. انفض رفاقه ومريدوه من حوله، وتحلقوا حول القادم الجديد، أمّا من ظل على العهد، وهم قلة، فتمت محاصرتهم والتضييق عليهم، من دون أن يبدوا مقاومة ذات شأن.

جل الوجوه السياسية من النظام القديم التي أُعيد تأهيلها عبر الانتخابات، وتحصلت على شرعية الصندوق، كانت ممن انفضوا عن الرجل، فرئيس الجمهورية، والذي ترأس برلمان بن علي في انتخابات مزورة سنة 1990-1991، لم يحضر جنازته في عام 2000، وكذلك رئيس مجلس النواب، محمد الناصر، الذي عينه بن علي رئيس بعثة تونس لدى الأمم المتحدة في جنيف من 1991 إلى 1996، ولم يؤد أي منهما، كما ورد في عدة مذكرات وشهادات، بدأت تظهر تباعاً، أي زيارة معايدة للرئيس في إقامته الجبرية. دارت الأيام، وعاد هؤلاء البورقيبيون المتنصلون منه، يتغطون بكفنه لافتة للحداثة، وختماً للمشروع المجتمعي التونسي.

كلما مر حزب نداء تونس الحاكم بأزمة، لاذ بضريح الزعيم يستظل بظله. كان البرنامج الذي قام عليه استئنافاً للبرنامج الحداثي المعطل الذي تهدده حركة النهضة، حسب زعمهم. لم يكن خطاب هؤلاء، في أول الأمر، مشيداً ببورقيبة، فالمزاج العام ما زال، آنذاك، متبرماً من فكرة الزعيم، إلى جانب ما حفّ بتلك الحقبة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، طاولت كل معارضيه، فتم اغتيال الزعيم يوسف بن صالح والعسكري لزهر الشرايطي، ناهيك عن إعدامات أخرى، وسنوات السجن والتعذيب التي طاولت بقية العائلات السياسية: قوميين ويساريين وإسلاميين. ولكن، مع صعود حزب النداء، عادت ثقافة تمجيد الزعيم، وفاضت أحياناً، حتى شملت الرئيس الحالي.

يحتار الساسة في وصف الرئيس بورقيبة: مستبد أم متنور؟ يفتخر البورقيبيون، والتونسيون عموماً، بنظام تعليمي جيد وتغطية صحية رائدة، قضت مبكراً على الأمراض والأوبئة، وحرية المرأة وعقلانية الإدارة، وغيرها من إنجازات الدولة الوطنية التي تنسب للرجل في ثقافةٍ سادت في الستينيات في أكثر من بلد. نتذكّر أننا كنا، ونحن صبية، نتمثل بورقيبة كائناً خارقاً للعادة، فهو ليس مجرد المجاهد الأكبر، النعت الذي كان أحب لنفسه، بل "محرر تونس وباني مجدها". وكنا نهمس، في ساحات المدرسة، أن بورقيبة يتفوق على العداء التونسي محمد القمودي، بطل العالم آنذاك في العدو، وننسب إليه الخوارق والرتب الأولى. لا شك في أنه كان الأبلغ خطاباً والأوسم والأفحل والأذكى إلخ. كان السقوط المدوي للرجل سقوطاً للصنم، لم تستوعبه خيالات بعضهم، آنذاك. ويطلق التونسيون على التماثيل لفظ "الصمبة"، ويبدو أنها إدغام لهجوي للفظ الصنم، أما التمثال فهو الاستعمال العام للأثر الفني. الأول يثير في تلقي الناس بقايا وثنية وعبادة الأشياء، أما التمثال فيستحضر الجمال والقيمة.

دفع التدثر بأكفان بورقيبة مختصي التسويق السياسي في إعطاء دروس للرئيس الباجي السبسي بأن يدخل قالب بورقيبة: البدلة، شكل النظارات، تلويحة اليد، وقد أفلح في ذلك كثيرا. ويكشف المستنجدون بتعويذة بورقيبة عن عجزهم عن ابتكار مشروعٍ لتونس، لا تنتكس فيه إلى الماضي، ولو كان "ماضي بورقيبة الجميل"، من أجل الإجابة عن حاجات حقيقية راهنة. استنفد المشروع البورقيبي جل صلاحياته، فكل فتوحاته وإنجازاته حالياً مترهلة، تعليم هزيل ومدرسة معتلة ودولة هزيلة وإدارة متورمة ومعطلة. هرمت البورقيبية، وستبدو استدامتها أمراً منافياً لسنن التاريخ، فيما يكون استئناف المشروع التحديثي لتونس بالتقاط الحاجات الجديدة لفئات جديدة في عصر جديد. وليس اللجوء، حالياً، إلى بورقيبة سوى تعويذة الخائبين، ومثلما لا يحتاج تاريخنا الراهن إلى بورقيبة، منهجاً ورؤية ومشروعاً، لا تحتاج مدننا تماثيل، بل سياسة تجعل منها فضاء للعيش المشترك، يتقاسم فيه الناس مكاناً وقيماً وأحلاماً، تجعل حياتهم أجمل: سكن لائق وبيئة نظيفة وخدمات جيدة وحوكمة محلية، تتيح له بناء مدينته هذه.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.