تعقيب .. برهان غليون بين الوعظ والتحليل

04 اغسطس 2015

برهان غليون.. انعكاس سلبي للاتفاق النووي على العرب

+ الخط -
يُصاب قارئ مقالة الدكتور برهان غليون "مصير العرب أمام تخلي واشنطن وتغوّل طهران" (العربي الجديد: 24/7/2015) بالحيرة، وعدم القدرة على تحديد موقف الكاتب، هل هو محلل موضوعي أم واعظ سياسي؟ فضلا عن حيرته أمام طبيعة الخطاب/الوعظ ومنطلقه، وهل هو خطاب أنظمة أم خطاب قوى سياسية ومجتمعية؟ 
في البدء، يقدم الدكتور غليون قراءة سياسية للاتفاق النووي الإيراني وأهدافه وانعكاساته على الوضع العربي، خلفيتها وجهة نظر دول عربية بعينها، تنظر إلى الاتفاق من زاوية مصالحها، أنظمة تنطلق من اعتبار إيران خطراً على وجودها ونفوذها، وهي قراءة غير منطقية أو موضوعية، وتقود إلى استنتاجات خاطئة، وتدفع إلى نشوء هواجس ومخاوف مغلوطة ومتوهمة، فليس صحيحاً ما قاله عن مكاسب إيران من توقيع الاتفاق النووي، فالمحلل الموضوعي، والمدقق في نص الاتفاق والتوازنات السياسية والعسكرية بين أطرافه، لن يجد لهذه المترتبات والتداعيات التي ذهب إليها، مثل قوله "الاعتراف بإيران قوة إقليمية كبرى، وبالتالي، الاعتراف بمصالحها الإقليمية وحتمية التفاوض معها حولها، ومن ضمنها وجود مليشياتها ودورها في الإقليم"، أو قوله "إلغاء العقوبات وفك الحصار الدولي المضروب من حولها منذ عقود، بما يعنيه ذلك من القبول بالنظام الإيراني القائم كما هو، وتعزيز وجوده وإضفاء الشرعية التي حرم منها زمنا طويلا، بسبب طابعه الديني وسياساته التوسعية واعتماده الإرهاب، بكل أشكاله، إستراتيجية دولية وإقليمية لفرض مصالحه وتوسيع دائرة نفوذه"، أو ما اعتبر المكسب الثالث "تحويل طهران من طرف منبوذ وخارج على القانون الدولي إلى طرف رئيسي في أية مفاوضات إقليمية مقبلة، وشريك مقبول ومطلوب في حل النزاعات الإقليمية التي ساهمت هي نفسها في تفجيرها (إيران لعبت دوراً تخريبيا واسعا في الدول العربية، على خلفية اعتبار إسرائيل ودول الخليج العربية مصلحة إستراتيجية أميركية وجزءا من ساحة الصراع معها). وبالتالي، الاعتراف لطهران بدور رئيسي في إعادة الأمن والسلام والاستقرار إلى المنطقة، وبحضور قوي ودائم في كل مشاوراتها".

إيران دولة إقليمية كبرى، وهذا لا تغيّره لا المقاطعة والحصار والعقوبات، ولا الاتفاق النووي والمصالحة مع الغرب، لأنه مرتبط بعوامل واقعية: المساحة، السكان، التجربة الحضارية، مستوى التعليم والثقافة، الإمكانات البشرية والمادية، (مخزونها من النفط 151 بليون برميل، والغاز 34 تريليون متر مكعب)... إلخ. لكن هذا شيء، وانطواء الاتفاق على الاعتراف بمصالحها وحتمية التفاوض معها حولها الذي زعمه الكاتب شيء آخر، فجوهر الاتفاق وحقيقته أنه خسارة سياسية للنظام الإيراني، صاحب شعارات "الموت لأمريكا" و "الشيطان الأكبر" الذي وجد نفسه على الضد من موقفه طوال العقود الثلاث الماضية، كما كشف ضعف النظام (كشفت دراسات المعهد الدولي البريطاني تفوّق دول الخليج على إيران، عسكريا من حيث الكم والنوع، وقالت إن سلاح الجو الإماراتي قادر وحده على شل سلاح الجو الإيراني في ست ساعات، ما يعني أن سبب الهوان العربي سياسي)، ورضوخه للعقوبات الاقتصادية التي شلت اقتصاد البلاد، وحولت البنية التحية في معظم قطاعاته، وخصوصاً قطاع الطاقة، إلى حطام تحتاج إعادتها إلى وضعها قبل العقوبات إلى بلايين الدولارات (قدرة بـ 500 بليون)، وإلى مستثمرين وخبراء أجانب، وإلى عقود من السنين. وهذا ينقض ما ذهب إليه الدكتور غليون في استنتاجاته من "القبول بالنظام الإيراني كما هو"، و"من ضمنها وجود مليشياتها ودورها في الإقليم"، و "تحويله إلى طرف رئيسي في أية مفاوضات إقليمية مقبلة". نشير هنا إلى خطوات اتخذتها واشنطن، بعد توقيع الاتفاق الإطاري والنهائي: تأييدها عاصفة الحزم ودعم السعودية تسليحياً ولوجستياً، وتصديها لمحاولة إيران التدخل في الصراع، ووضعها قيادات في حزب الله على لائحة العقوبات، لدورهم في الصراع السوري.
استهدف الاتفاق استعادة إيران الدولة، ووضعها على خط السلوك المقبول بمعايير المجتمع الدولي، ووضع النظام تحت الوصاية الدولية، إلى حين تحقيق هذا الهدف، لم يُقبل النظام كما هو، وقد بقيت مليشياته على لائحة الإرهاب، وتضمن الاتفاق بندا يمنع النظام من التصرف بأموال الدولة، كما يريد، وبنداً يمنعه من تمويل مليشياته، وهذا ما أدركه حسن نصرالله، ودفعه إلى طمأنة قاعدته الحزبية، بالقول في خطابه أخيراً "إيران لن تتخلى عن حلفائها"، ولم يحوّلها الاتفاق إلى طرف رئيسي ... إلخ. فالمفاوضات والاتفاق والمصالحة الإيرانية الغربية كلها مرتبطة برؤية إستراتيجية أميركية تستشرف العقود المقبلة، وما تنطوي عليه من احتمالات ومتغيرات، ما استدعى العمل على إراحة المنطقة، وتنفيس التوتر فيها، وإبعاد إيران عن علاقاتها مع الصين، بشكل رئيس، وروسيا، كخطوة مرتبطة باستراتيجية مواجهة الصين، وإضعافها والحد من قدرتها على منافسة الولايات المتحدة على قيادة العالم، والحد من عدوانية روسيا. هذا وصفها في وثيقة الاستراتيجية القومية عام 2015 التي أصدرتها الإدارة الأميركية.
في حديث الدكتور عمّن "سيدفع ثمن المصالحة الإيرانية الغربية"، يبقى على موقفه الدعائي المتبني رؤية الدول العربية المشار إليها من المصالحة الإيرانية الغربية، مترتباً لتنفيذ الاتفاق، ولم يكتف باستبعاد تغيير واشنطن موقفها "مسايرة النزوعات التوسعية الإيرانية"، بل لم يستبعد أن تطلب من العرب مهلة أخرى، لغض النظر عن سياسات إيران التوسعية التخريبية، وربما مطالبتهم بالتعاون معها في محاربة "داعش". كما لم يستبعد قيام إيران بعقد "تفاهم سري، وحتى شبه علني مع إسرائيل"، وتقاسم النفوذ في المنطقة معها، وجنح به الخيال في تصور حدود التفاهم بينهما قائلا "ولن ترفض إسرائيل أن تعترف لطهران بضم ما تسميه الهلال الشيعي في مقابل أن تضم هي ما تبقى من جنوب سورية، وتطلق يدها في بقية المناطق. وهذا هو معنى مطالبة بعض المسؤولين الإسرائيليين الدول بالاعتراف بضم الجولان السوري، بذريعة أن الدولة السورية لم يعد لها وجود". وينتقل إلى موقف الموجه السياسي، بالدعوة إلى اتخاذ موقف عربي مواجه والتصدي لإيران، و"إلا تم التفاهم على حسابنا"، قبل أن ينزلق إلى موقف تبشيري، والتحدث بلسان العرب ونيابة عنهم، بالدعوة إلى موقف ثوري، فتحت عنوان "هل من مشروع لتوحيد الشباب العربي؟"، قال "ليس هناك سوى حل واحد، هو أن نكون موجودين. يعني أن نكون موجودين بذاتنا لا بغيرنا، وأن نكون بذاتنا يعني أن نكون بقوة شعوبنا ووحدتنا، وأن نشعر بمسؤولياتنا ونتحملها، وأن تكون لدينا خططنا واستراتيجياتنا ودفاعاتنا، ووسائل الحفاظ على أمننا، وحماية حقوق مجتمعاتنا، أي أن يكون لدينا تصورات واضحة ومتفق عليها لمصالحنا الوطنية والعربية المشتركة، مستقلة عن مصالح النخب الحاكمة ونظمها، التي يمكن أن تبرّر، كما حصل في سورية، التحالف مع الأعداء لضمانها، ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد، وتشريد الشعب وانهيار الدولة. وهذا يعني، أيضاً، أن نعترف لشعوبنا بالحق في مناقشة شؤوننا بحرية ونقد سياساتنا وتطوير خططنا وخياراتنا، وهذا هو محتوى التفكير الاستراتيجي. وهذه وظيفة السياسة التي حرمت الشعوب العربية من ثمارها، خلال عقود طويلة، لحساب الحكم بالقوة والقهر والإرهاب".. "نحن بحاجة إلى مشروع سياسي ومجتمعي، يلهم الشباب ويحمسهم، ويستدرك خمسين عاماً من الخيارات الخاطئة والسياسات الضعيفة وغير الوطنية، ويرد على تطلعات أجيالنا للاندماج في العالم ومسايرة قيم العصر. وبديله الوحيد النكوص إلى قيم القرون الوسطى وتقاليد "داعش" والغبراء".. و"بالنسبة للعرب، لا يوجد مشروع آخر، يمكن أن يعيد لهم الروح، ويوحد صفوف شبابهم، ويحرّر طاقاتهم سوى مشروع الربيع العربي الذي ضحوا في سبيله بأرواحهم، وكل ما يملكون، ووقفت في وجهه، ولا تزال، كل قوى الجمود والظلام والفساد، المحلية والأجنبية. العمل على تلبية مطالب الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، وبناء المنظومة العربية، المحلية والإقليمية، اللازمة لذلك، هو المشروع الوحيد الممكن والقابل للحياة، فحكم الطغيان إلى زوال، ولن يكون هناك بديل آخر، سوى تفاقم الانقسام والفوضى والهزيمة والخراب".

تأرجح الدكتور غليون بين تبنّي موقف دول عربية بعينها من الاتفاق النووي ومترتباته وتبنّي موقف ثوري شعبوي ومغازلة الشارع الشعبي، وهذا موقف تكرر مراراً في السنوات الأخيرة، دول كان موقفها، ومازال، تثبيت الواقع السياسي والاجتماعي وتأبيد التسلطية وحرمان الشعوب من حقوقها، وعدم السماح بطرح أسئلة حول حالة الضعف وانعدام الوزن والهوان الذي بلغته، وعلاقة ذلك كله بطبيعة الأنظمة السياسية والتوجهات الثقافية والاجتماعية المتبعة. لذا، لم تكن مع المفاوضات والحل السياسي للملف، لأن مصلحتها في تجميد الواقع، وتوتير المناخ السياسي، واستثمار الأزمة في إدارة العلاقة مع شعوبها، وضبط ردود أفعالها، ومنع تحركها نحو المطالبة بالإصلاح، ناهيك عن التغيير. دفعتها الخلفية نفسها إلى لعب دور تخريبي ضد ثورات الربيع العربي، حيث عملت على إجهاضها عبر العمل على احتوائها أو تهجينها وتدجينها، بالتدخل فيها لتعزيز تيارات وإضعاف أخرى، وتكريس سمة ونزع أخرى، أو عبر دعم قوى الثورة المضادة، كي لا تنتقل عدواها إلى شعوبها.
الاتفاق بأبعاده السياسية والعسكرية، إذا أخذ بنظرة موضوعية، ليس له انعكاس سلبي على المصالح العربية، كما ذهب الدكتور غليون، بل يمكن تلمس إيجابيات كثيرة، لعل أولها الحد من انتشار الأسلحة النووية، والدفع باتجاه استقرار سياسي وأمني في الإقليم. لكن، له انعكاس سلبي كبير على هذه الأنظمة، يمكن الإشارة إلى استيائها من إعلان الرئيس الأميركي "إن الخطر عليها ليس من خارجها، بل من داخلها"، لأنها تريد من أجواء التوتر والتخندق والخوف الإبقاء على ثقافة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ووضع سقف لتطلعات مواطنيها ومطالبهم في المشاركة السياسية، وفي القرار الوطني، وإطلاق الحريات السياسية والاجتماعية. وهذا يفسر سعيها إلى تعميم الرُهاب من الاتفاق النووي، والمصالحة الإيرانية الغربية، لتجعل مواجهة إيران والمصالحة الإيرانية الغربية أولوية.
في الختام، كان مستغربا ومستهجنا أن يقول الدكتور"بعد أن فقدنا الحماية الأميركية الحقيقية". فمتى كان ثمة حماية أميركية حقيقية للعرب (؟!)، وهل كانت الاتفاقات السياسية والأمنية والعسكرية التي تعقدها الأنظمة العربية حماية للعرب، شعوباً ودولاً، أم حماية للأنظمة من شعوبها بشكل رئيس، مقابل تسليم مقدرات البلاد وثرواتها للحامي، والعمل بـمقولة "حاميها حراميها".