أنتجت السنوات الثماني الأخيرة المريرة نماذج كانت مفاجأة غير طيّبة على مدار الثورات والحروب، أبرزها ظاهرة الموالاة العمياء، وهي ظاهرة محلية. في المقدمة: الشبيحة والبلطجية، وهم زعران مشهود لهم بالخروج عن القانون، وممارسة الجرائم من السطو والتهريب إلى الاختطاف وترهيب الأهالي والاعتداء عليهم. وكان في غض النظر عن جرائمهم امتياز، لم يمنح لغيرهم، تجلى بتجاوزات وحشية، فمثلوا سلطة بطش تعمل بتوجيهات من الأنظمة، كانت تأكيداً على شرعية وجودهم.
منذ بداية الربيع العربي، انتقلوا بقضهم وقضيضهم، بقياداتهم وعناصرهم إلى صفوف السلطة، فتسلحوا وشكلوا مليشيات تذرعت بالوطنية، وأصبح القتل والسلب والنهب على رأس مهماتها، وشاركت مع الجيش في سحق التظاهرات وافتعال المجازر. فمثلت الموالاة في أشدّ مظاهرها انحطاطاً وإجراماً.
لم تقتصر الموالاة على الزعران، هناك الموالي البريء، مصداقاً للقول، يولد الإنسان حراً ثم يصبح عبداً، وهو مواطن من تصنيع النظام الشمولي، أثمر على المدى الطويل. وكان بالعمل على إشاعة مناخ يعتاد فيه الناس الرضوخ. أفضل من عبّر عنه الفرنسي إيتيان دو لابواسييه في كتابه "العبودية الطوعية": "عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل، تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتلاءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه: المواطن المستقر". هذا النوع عبّر عن موالاته بـ"كنا عايشين" يقيس حال البلد بحاله فقط، مهما كان هذا الاستقرار مذلاً ومهيناً.
النموذج الآخر الموالي المُغرر به، الذي لا يستمع إلا للوسائل الإعلامية الرسمية، فيصدّق نشرات الأخبار، وبرامج الإذاعة والتلفزيون عن المؤامرات المستهدفة للبلد، ولا يُعمل عقله في النظر إلى اعترافات المعتقلين التي تؤخذ تحت التعذيب، ما يلبي حاجة نفسية لديه، تعفيه من التفكير والمعارضة معاً، فالنظام على صواب مهما فعل، فيبرر الاعتقالات العشوائية واستعمال الدبابات والطائرات للقضاء على الاحتجاجات، بالشعارات التي تطرحها الدولة حول الوطن المحاط بالأعداء. وفي حال صادف وتعرض هو نفسه للضرب والسجن، فسيجد للنظام عذراً، فهو يخطئ أحياناً.
ثم الموالي بحكم الخوف، فيحسب حساب كل كلمة يقولها، ويبلغ حد أن يكون رقيباً حتى على ما يفكر فيه، يعيش في الرعب، فالنظام لا يرحم، يعزز مخاوفه واقع معرفته بإجرام أجهزة الأمن.
أما الموالون ذوو الطموحات الكبيرة، فتتهيأ لهم الفرص للمزيد من الارتقاء، وهم طائفة من رجال الأعمال والإعلاميين والمحللين السياسيين، ومعهم مثقفون وفنانون أدركوا حاجة النظام إليهم، فوفروا له غطاء فكرياً وفنياً.
يتميز هؤلاء بانتهازيتهم، وانحيازهم لما تمليه مصالحهم، ما يسهل فوزهم بالمناقصات، والاتجار بالممنوعات، وغسل الأموال. وعلى المنوال نفسه، يستفرد المثقفون والفنانون بوظائف الإعلام والفن من تمثيل وغناء والتربع في صدارتها، وتبلغ موالاتهم حد التقزز، بالتباري في الخنوع، والتحريض على الحرق والإبادة، والمزايدة على القتلة في الميدان. ولا عجب، في داخل كل واحد منهم دكتاتور صغير وتافه.
هذه وجوه من الموالاة، تحيلنا على نماذج تشهد على تعطيل العقل، دونما فارق كبير بين الرثة الأشد إجراماً إلى المتعلمة الأكثر ثقافة، إلا في الوسائل، كلها تؤدي الغرض نفسه: إدامة الاستبداد، وقهر إنسانية البشر.