بعد تخرّجي من كلية الفنون الجميلة، بدا التصميم الفني المجال الأكثر قرباً إلى اختصاصي من الناحية العملية لممارسته كمهنة، تماماً كممارسة الروائي أو الشاعر لمهنة الصحافة مثلاً، فامتلاك أدوات الحرفة (أدوات اللغة بالنسبة للكتابة، والأدوات البصرية بالنسبة للفن التشكيلي) يسمح بالتعامل مع مهنة تجاور الفنّ، صاحب تلك الأدوات.
من بين أنواع التصميم المختلفة، شعرت أن تصميم أغلفة الكتب هو الأقرب إلي. ربما لأنّي قارئة، وقراءة المخطوطات شرطٌ أساسٌ لمعرفة مناخها، وبالتالي مناخ الغلاف الذي سينسجم معها بصرياً عند تحوّلها إلى كتابٍ مطبوع.
هنا بدأت المشكلة الأولى في علاقتي مع تصميم الأغلفة. فليست كلّ النصوص التي أضطر لقراءتها بسبب عملي، تعجبني أو أتفق مع محتواها أو تحفّز لدي فكرةً بصرية. في البداية، أدّى فشلي في إيجاد علاقة مع النص، إلى فشلي في تصميم غلاف له. ثم وجدت الحل، الأشبه ما يكون بخدعة نفسية وتقنية على حدّ سواء. صرتُ أركّز على فكرة واحدة تلفت نظري في النصّ وأنسى ما تبقى منه، وأصمم الغلاف لهذه الفكرة وحدها... ونجح الأمر!
ثم أتى بعد ذلك الاضطرار إلى التعامل مع الرقابة من أجل تصميم أغلفة الكتب. فهنا لستُ حرّة بالكامل، كما أنا أمام لوحتي. هنا يوجد خضوعٌ لمنطق السوق، وهذا يعني مثلاً، أن غلافاً فيه صورة للعري، حتّى لو كان من صميم النص وأصله ومعناه، سيمنع الكتاب من دخول عدد كبير من الأسواق العربية. ولن ترضى أي دار نشر أن تُحرم من بيع كتبها بسبب أغلفة لن توافق عليها الرقابة. وصار علي إذاً أن أقوم "برقابة ذاتية" وأن ألجأ إلى الإيحاء أو الرمز أو الحيلة، لالتقاط المعنى البصري للنصّ من دون تعريضه للمنع من الدخول إلى المكتبات أو معارض الكتب التي تقام سنوياً في العديد من البلدان العربية.
من مشاكل تصميم أغلفة الكتب، وإحراجاتها أيضاً، أن يقوم الكاتب بالتدخّل في التصميم، خصوصاً حين لا يمتلك هذا الكاتب (رغم معرفته اللغوية) معرفة بصرية تسمح له بذلك. فغياب معرفته البصرية تجعل من تدخله هذا، أمراً مسيئاً لكتابه حتّى وإن لم يقصد ذلك طبعاً، فالنوايا الحسنة تقود إلى الجحيم أحياناً. وقد اضطررت مراراً إلى الاعتذار عن تصميم غلاف لأن تدخّل الكاتب سيحوّله إلى شيء أخجل من توقيع اسمي عليه.
كانت البداية شائكة بعض الشيء، قبل أن أستوعب تماماً أنه بالرغم من أن العلاقة البصرية الوثيقة بين تصميم الأغلفة والفنّ التشكيلي، من حيث التأليف خصوصاً، لا تلغي اختلافهما في كثير من النواحي، وبالأخصّ من ناحية الوظيفة. ليس على الغلاف أن يكون مرسوماً بالضرورة. قد يكون صورة فوتوغرافية أو كولاجَ أو تجريداً أو ملمساً أو أي شيء آخر يخدم فكرة النصّ. أما الأهمّ في تصميم غلاف ناجح فهو جعله ملفتاً للنظر حين يوضع إلى جانب غيره من الكتب على رفّ مكتبة تعرضه للبيع. على الغلاف أولاً أن يجذب إليه قارئاً محتملاً، فيقترب منه ويمسكه بيده ويتأمّله، حتى وإن لم يكن على معرفة بالكاتب أو الكتاب. على الغلاف أن يقدّم هذه الخطوة الأولى من الجذب، ليتولّى الكتاب بعد ذلك تقديم نفسه بنفسه. خطوة قد تكون خادعة ربما، لكنها ضرورية مع شروط العرض والبيع والسوق.
كان علي أن أتعلم أيضاً، مع الوقت والمراس والاستمرار لسنوات في تصميم أغلفة الكتب، أن غلاف الكتاب ليس ملكي كلياً، ليس لوحتي التي أمتلكها بالكامل، لوحتي التي هي لي وحدي من دون أدنى شكّ. ففي تصميم الغلاف أكون شريكة للنصّ الذي عليه أن يبتدئ الفكرة البصرية للغلاف. وتتفاوت شراكتي هذه مع تفاوت علاقتي بالنصوص التي أقرأها. وحين ألتقي بنصّ يقدم لي تلك المتعة التي أنتظرها وأبحث عنها كقارئة، أعرف أنني سأصمم غلافاً أشعر معه بأنني أكثر من شريكة. سأصممه وكأنني مالكته، تماماً كامتلاكي للوحتي.