تشييع

07 ديسمبر 2015
لوحة للفنان الفرنسي إدغار دوغا (Getty)
+ الخط -
أسدلُ راحة كفي على الرموش المتهدّلة، الحدقة تنطفئ. يمرّ الشعاع بين أصابعي ويغمر المسامات. أحدّق بالجفون المطوية ككفن. يقولون: إن الشهداء جميلون، جميعهم يبتسمون. لم أكن مبتسماً. شفاه محتقنة، جبهة ضيّقة، عينان صغيرتان كثقوب أزرار، أسنان مسوّسة، فكّ ضيق، بشرة حنطية باهتة. ما زلت أحدّق. أغمض عينيّ مصغياً للمرأة العجوز التي تتلو: "أو كصيّبٍ من السماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيطٌ بالكافرين". أفتح عينيَّ مجدداً، وفي همهمة البكاء، تخرج الحروف كشفرات تقطع الحبال الصوتية. لا أُميّزُ الوجوه، تتشابه الملامح حد التطابق. 

كانت المرأة العجوز تستيقظ كل صباح وتتلو على مسامعي: "إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً وكذلك يفعلون". حملت المرأة العجوز أرض كنعان في ثوبها الأسود المرفرف كعلم. وفي صباحات الزيتون الأخضر كانت دموعها تسيل كجرة مكسورة. كنت تتلو لي الحروب فصلاً وراء فصل. وكانت تهبني التاريخ، مكتبةً تمترستُ ورائها حين تدفّقت منه القبائل مرةً أُخر بغية مزيد من الشهداء. أحفر كل يوم في المكتبة عشرة طوابق من القصص وروايات التاريخ. أخبئ قلبي بين الأوراق. أضغطه جيداً كحزامٍ ناسف، ثم أُفجّر التاريخ كاملاً. أحرق الجثث المتكررة والرميم المنثور في طياته. أخنق أبطاله وضحاياه. أمزق أمثلته وعبره. أفجر كلّ الأشراك المنصوبة قرب أكواخ النجاة، أفجر رؤوس السَّحَرة والدجالين والمخادعين والسياسيين والحدود. كل الحدود التي تضبح في حناياه.

اقرأ أيضًا : مقصلة الخيانات
                                        *

أقف عند الشاطئ مطلاً على سواحل أوروبا وفي يدي منجل، لأقطع أرجل الموتى قبل موتهم. أحضر سنارة وأرمي بجثثهم كطعم لأصطاد آلهة الحرب.
على هذه الطريق عبر "الألماني" ذات يوم، قافلاً من معركة طويلة. قال لي عندما ركضت إلى دكانه هلعاً من طياطين الريح: "هذا المسدس خبّأته قبل أن تتكوّن عظامك. قطعت سكة الحديد شرق القرية بجمجمتي المجوفة عندما حاول الفرنسيون العبور نحو بساتين الزيتون وحقول القمح التي أحرقوها عند رحيلهم".

كان الألماني يخبئ في دكانه، التي تفوح منها رطوبة لذيذة تختلط مع رائحة بهار، مسدس طاحونة، حمله من جبهة طويلة تمتدّ على قارة كاملة. قبل موته أمسكني من يدي. نظر في عيني، فرأيت كلّ الجنود الذين خاضوا حرباً دامية في الخنادق البعيدة تحت الثلوج والأمطار.

كانوا عرباً وأفارقة، يقطّعون جثث بعضهم وهم يبكون. وضع في يدي المسدس وقال: "أرسلونا من قرانا المسالمة لنخوض حروبهم العالمية". علّمني الألماني كيف أطلق نحو السماء وأصطاد طياطينها، لكنه مات بعد أن التصق به اسم الحرب التي خاضها على جبهات الألمان، ولم يبقَ منه سوى معطف عليه علم دولة غريبة.

اقرأ أيضًا : المكتبة المحرمة 

تسير الجثة على الأكتاف، لا أعرف مكان الجنازة ولمن تكون! أسير خلفهم، الميتون يحركوننا بخيوط. يرسمون لنا الدرب المتعرّج لنعود نحوهم. كأنني سقطت أواخر القرن الجديد في ماكنة تطحن الجثث وتخرجها روبوتات. الشاشة المثبتة آخر الممر، تفيد بأن اتجاه الزمن يمضي نحو الوراء. أميل برأسي مواسياً نحو أبو الشهيد وأم الشهيد وأخت الشهيد وقبيلة الشهيد وقارة الشهيد. هذا عالم الشهداء السائر نحو قبة سواد كبيرة. خيمة من البقع الزنخة، صنعتها فتاة ماتت مجنونة حين تاهت بين الكونغو ورواندا، في اشتعال المجازر التي كانت تجري في كواليس العالم الخلفي المنشغل بالمسرح والسينما وهندسة الحروب اللطيفة.

أضع الجثة في القبر. أسدلها في مثواها، وأنا أنصت للمرأة العجوز وهي تتلو: "فاصبر صبراً جميلاً، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً". أضرب الفأس بالدرن المتفحمة، أضرب الصخر الأسود المتراص على العظام. المرأة العجوز تجلس على حافة القبر، تقول لي: هنا دفن جدك الأول منذ عشرة قرون. كانت الأرض وما زالت مستطيلات ودوائر تتداخل بين بعضها. يخشوشن صوتها وتضيف: "احفر، لتخرج العفن المتكدس على العظام... منذ متى بدأت الحفر؟". "ربما منذ عام أو خمسة أعوام. ربما ولدت هنا قرب المقبرة". أسأل المراة العجوز "في أي مدينة نحن؟". تقول "المدن تشبه بعضها". ألمح من وراء "عقصتها" ناطحات سحاب وأبراج ومتاحف. أقول لها: "من هؤلاء المتشحين بالسواد؟"، ثم تقرأ مرة أخرى: "يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصبٍ يوفضون، خاشعةٌ أبصارهم ترهقهم ذلّةُ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون".

ترتطم الفأس بجمجمة، ومن البعيد يعزف صديقي الهارب من الحرب، على الأوتار براميلاً وقذائف وصواريخاً ورصاصاً. ينز اللحن وتنخفض السماء المربوطة بأوتاره. أضع الفأس التي التهمت يدي وألحق الفتق في طرف الجمجمة. هنا كانت القارات الثلاث مجتمعة. كأن الكنز الذي أضاعه مجنون قريتنا في الهند قد عاد إليّ. على طرف بحيرة تخفق بالضباب، كان يدخن الغليون. تلك عادة حملها جده من القارة الأميركية بعد فناء السكان الأصليين. هكذا كانت تخبرني "فِلاحة"، المرأة المجنونة المنبوذة في القرية. المسافة من دكان الألماني حتى منزل فلاحة، كانت شبيهة بالمسافة بين سورية وأوروبا، هنالك حيث القصص والأساطير التي كانت تهبط من السماء الرمادية، حيث القرآن والقهوة تشفي عابري السبيل الذي يتوقفون ليرتشفوا الصمت في مضافة جدي.

أرتمي في القبر تعباً، أسمعُ عواء الذئب يحمل وجه المرأة العجوز بعيداً. تقترب مني الوجوه المتشحة بالسواد وتتحلّق حول القبر، ثم أنصت إلى صوتها البعيد وهو يتلو: "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنا صادقين، وجاؤوا على قميصه بدمٍ كذب، قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون".

ترتخي الطبقة المجعّدة من الجلد على بعضها، كما تنغلق الأرض على ذاتها. يتوقف الزمن مرة أخرى، كأنني وجه العالم، مستلقٍ نحو السماء، مربوط اليدين نحو الصدر أحدّق. ثم أستعيد المدن وضحاياها، وينقبض الصدر حين لا أشعر بالعضلة المتحجّرة كالكلس، ثم تختفي السماء الرمادية والمطر والزيتون، وينهال التراب على وجهي، يغطي طبقة الجلد الرقيقة. يختفي الشعاع على المسامات وتنطفئ الحدقة وتنطوي الجفون ككفن.
(كاتب سوري)
المساهمون