تستحق تجربة تشيلي، بفرض الانتقال الديمقراطي من الديكتاتورية الانقلابية في عام 1990، وبعد 17 سنة من انقلاب الجنرالات، بزعامة أوغوستو بينوشيه، على الرئيس اليساري المنتخب سلفادور ألليندي في 1973، التوقف عندها عربياً. ليس فقط لتشابه الحالتين التشيلية والعربية، إن من حيث حكم نخب مستفيدة من حكم العسكر وديكتاتوريات الأمر الواقع، أو في الأثمان الفادحة التي دفعتها البلاد، وطبقاتها الأكثر فقراً. فشيوع النهوض والنمو على مستويات عدة في البلاد كالتعددية الحزبية والحريات، خصوصاً حرية الصحافة والتعبير، ما كان ليتحقق من دون الانتقال الديمقراطي. فخلال سنوات الديكتاتورية دفع شعب تشيلي تكاليف القمع وانتشار الفساد والمحسوبيات وهيمنة طبقات مرتبطة بالسلطة القمعية، على حساب الأغلبية الساحقة، والتي عادة ما تكون من الأكثر حرماناً وفقراً.
تلك التكاليف، والحريات التي تحققت، هي التي أخرجت الناس على مدى شهر ونصف الشهر إلى الشوارع في العاصمة سانتياغو ومدن أخرى، تطالب بمراجعة دستور البلاد والعملية الديمقراطية برمتها، تحديداً على مستوى العدالة الاجتماعية. العارفون بوضع تشيلي قبل 30 سنة واليوم يؤكدون على مزيتين فرضتهما عملية الانتقال الديمقراطي. فلم يكن بوسع الناس في عصر بينوشيه، التعبير عن أنفسهم، وإن أُتهم اليوم اليسار بتأجيج غضب الشارع، من دون أثمان أكثر وحشية، التي تشبه ما تدفعه شعوب عربية في أكثر من مكان في عالمنا العربي. ومن دون الانتقال الديمقراطي لم يكن لعجلة الاقتصاد والنمو "أن تدفع الناس للمطالبة بعدالة اجتماعية، والثورة على مخلفات ما بنته طبقة استمرت في انتهازيتها، باعتبارها جزءاً من عجلة السلطة".
بكلمات بسيطة يعبّر التشيليون، على الرغم من سقوط 22 قتيلاً وآلاف الجرحى، عن أنهم لم يكونوا قادرين على المرور بجانب القصر الرئاسي في عهد بينوشيه، من خلال الهتاف مقابل قصر الرئيس الحالي سيباستيان بينييرا واتهامه بأنه "قاتل".
صحيح أن حالة البلد الاقتصادية والبنى التحتية شهدتا نمواً غير مسبوق، حتى تحولت تشيلي إلى نموذج تطلبه شعوب دول أميركا اللاتينية، إلا أن الانتقال إلى الديمقراطية بائتلاف عريض اتفق على إنهاء الديكتاتورية، هي نفسها التي تسمح أيضاً شروطها وظروفها اليوم للشارع التشيلي بالخروج بهذه الجرأة من أجل المطالبة بحقوق أساسية، ما كانت ممكنة لو استمر النهج الديكتاتوري.
لم يعد خطاب "العمالة" أو "الاندساس"، الذي يسمع ضجيجه السياسي والإعلامي في منطقتنا، قابلاً للتسويق إذا ما تحققت عملية الانتقال الديمقراطي بتعددية تحترم أولاً وأخيراً أننا لسنا في عصر "الحزب والأب القائد"، بل أمام وقائع يعرفها من يعيش في أقصى بقاع الأرض وهي التي تواجه من يعايش يوميات سانتياغو اليوم عن "الكرامة"، بكل ما تحمله من معان مرتبطة بحاضر ومستقبل ملايين الناس في هذا الجزء أو ذاك من العالم.