"انتبه خطر وقوع أحجار". "من أجل سلامتكم رجاء عدم الاقتراب من الأبنية المتضررة". "رجاء إخلاء المبنى وعدم الدخول إليه". "منازلنا ليست للبيع". "من تحت الردم ستنهض بيروت"... هذه لم تكن سوى عينة من اللافتات والأوراق الملصقة على جدران ومداخل العديد من الأبنية التراثية التي تملأ شوارع منطقتي الجميزة ومار مخايل المتلاصقتين في بيروت، واللتين تعدّان من الأكثر تضرّراً جراء انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب. هُجّر جزء من سكان المنطقتين بعدما فقدوا المأوى الذي كانوا يستأجرونه أو يملكونه، على أمل أن يتمكنوا من العودة إليه ولو بعد حين. فيما الجزء الآخر لا يزال يقيم في منزله بعد تصليح جزئي للأضرار، لأن لا خيار آخر متاحاً أمامهم.
وبعد مرور شهر على انفجار الرابع من أغسطس/آب، بات كثيرون على يقين بأن العودة قريباً إلى منازلهم، سواء بصفتهم مستأجرين أو ملاكاً، تبدو صعبة. هؤلاء ينتظرون "معجزة" في ظل تشككهم في تحرك الدولة على نحو سريع للمساعدة في إعادة ترميم المباني المتضررة على نحو كبير، خصوصاً التي يحمل منها طابعاً تراثياً، وتشتهر بقناطرها وأسقف القرميد التي تمنح العديد من أحياء بيروت رونقاً خاصاً بعيداً عن التلوث البصري الذي أفرزته ناطحات السحاب والمباني الزجاجية المتراصة. وحتى اليوم لا توجد حصيلة نهائية بعدد المنازل التراثية المتضررة جراء الانفجار.
وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال، عباس مرتضى، خلال مؤتمر صحافي عقده في 27 أغسطس/ آب الماضي لإطلاق الخطة الوطنية لإعادة وتأهيل الأبنية التراثية في بيروت، قال إنه تم حتى ذلك اليوم "مسح 576 مبنى تراثياً؛ 331 مبنى في المنطقة المباشرة للانفجار، و245 مبنى في المنطقة الخلفية".
وبحسب ما نقلت عنه الوكالة الوطنية للإعلام أكد أنه "تبين وجود 86 مبنى من أصل 331 مبنى في وضع حرج متضرر: 44 منها في خطر الانهيار الكلي بحاجة إلى تدعيم كامل و41 في خطر انهيار جزئي (بحاجة إلى تدعيم جزئي)". وأعلن "أن هناك 13 مبنى قيد التدعيم، في حين ستتمحور المرحلة المقبلة حول التراث المعماري الحديث، التراث الديني والتراث الصناعي". وبموجب تقرير نشرته رئاسة مجلس الوزراء في 30 أغسطس فإنه يوجد 70 مبنى تراثياً بحاجة إلى تدخل مباشر.
من جهتها، أفادت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) بتأثّر 8000 مبنى على الأقل في بيروت، ولا سيما في منطقتي الجميزة ومار ميخائيل المركزيتَين، ويشمل هذا العدد قرابة 640 مبنى تراثياً، من بينها 60 مهدّدة بالانهيار. ودشنت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، خلال زيارة ميدانية لها إلى بيروت، أواخر الشهر الماضي، حملة تبرعات دوليّة بعنوان "لبيروت"، أفادت المنظمة بأنها مخصصة "من أجل دعم عملية إعادة تأهيل المدارس والمباني التراثية التاريخية والمتاحف ومعارض الفنون وقطاع الصناعة الإبداعي". وإذا كانت التقديرات الأولية للمنظمة تتحدّث عن الحاجة إلى مئات ملايين الدولارات، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى أصحاب المنازل والأبنية التراثية: متى يتحقق ذلك، وكيف؟ خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء، وما يمكن أن يلحقه من أضرار إضافية في هذه المباني.
وتبدو المهمة معقدة ومتشابكة، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان جراء ارتفاع أسعار الدولار مقابل الليرة اللبنانية وحجز المصارف على أموال اللبنانيين.
كذلك تبرز على نحو خاص مشكلة المباني التي يقطنها مستأجرون قدماء (يدفعون مبالغ زهيدة مقابل الإيجارات السنوية)، ما يجعل أصحاب هذه المباني لا يستعجلون عملية الترميم، ويعولون على أن بقاء المنازل المؤجرة غير صالحة للسكن لفترة طويلة سيقود المستأجرين إلى التخلي عنها، ما يتيح لهم التصرف في أملاكهم بحرية.
مع العلم أنّ وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني أصدر في 12 أغسطس الماضي تعميماً يتعلق "بمنع بيع العقارات ذات الطابع التراثي والتاريخي أو ترتيب أي حق عيني عليها، إلا بعد أخذ موافقة وزارة الثقافة، وذلك منعاً لاستغلال الحالة الراهنة للمناطق المنكوبة إثر تفجير مرفأ بيروت وضواحيها طوال فترة المسح وإعادة الإعمار". ويشمل هذا التعميم ليس المباني الممهورة فقط من جانب مديرية الآثار على أنها مبانٍ تراثية ومدرجة على "لائحة الجرد العام للأبنية التاريخيّة" بل تلك المصنفة أنها ذات طابع تراثي والتي تعد الأكثر عدداً في عدد من مناطق بيروت.
المحامي جوزيف عفيف حداد، أحد الذين يمتلكون عقاراً في منطقة الجميزة يتألف من مبنيين شقيقين تضررا، وثالث سلم من الانفجار. يتحدث لـ"العربي الجديد" عن رغبته في ترميم المبنيين لارتباطه عاطفياً وتاريخياً بهما وبالحي. لكنه يتوقف عند ارتفاع تكلفة الترميم التي تشير التقديرات الأولية إلى أنها تتراوح بين 500 و600 ألف دولار.
يشرح تاريخ المباني في الحي، ومن بينها الأبنية التي يمتلكها قائلاً إنها بُنيت في أوائل القرن الماضي، تحديداً في الفترة ما بين 1920 و1935. وعلى الرغم من أن المبنيين اللذين يمتلكهما غير ممهورين من وزارة الثقافة بأنهما تراثيان، على غرار العديد من الأبنية والمنازل التراثية في المنطقة، إلا أنه أبلغ بضرورة مراجعة مديرية الآثار في الوزارة من أجل الترميم.
تلقى حداد وعوداً عدة بالمساعدة، خصوصاً في ما يتعلق بالسقف القرميد لأحد المباني، الذي تضرر على نحو بالغ. حتى إن إحدى الجمعيات طلبت منه الحفاظ على الخشب الذي تساقط لإعادة استخدامه في عملية الترميم. على الرغم من تجاوبه مع ما يطلب منه، بما في ذلك إزالة الأنقاض، يبدي حداد شكوكاً في كل ما يتعلق بالدولة اللبنانية، سواء لناحية رغبتها أو قدرتها على المساعدة. لكنه يتمسك بضرورة الترميم رغم كل الصعوبات.
يقول إنه من ناحية مالية محضة، لا يوجد معنى للترميم؛ أولاً بسبب التكلفة المرتفعة، وثانياً بسبب وجود أربعة مستأجرين قدامى في المبنى، والإيجار السنوي الذي يدفعه هؤلاء كمجموع كلي هو بحدود مليوني ليرة لبنانية سنوياً، أي ما يعادل نحو 250 دولاراً سنوياً بسعر صرف السوق السوداء حالياً. لكنه يؤكد أن المسألة بالنسبة إليه أبعد من مجرد مسألة مالية، فهناك رابطة تاريخية وعاطفية.
بدوره، يشكو أندريه تركيه، الذي تضرر مبنى تراثي يملكه، ويُستخدم كمطعم إلى جانب محلات تجارية عدة عائدة له في شارع أرمينيا في مار مخايل، من الإهمال الحكومي في هذا الملف. وبينما يوضح أنه اضطر، بعد 22 يوماً من البقاء من دون شبابيك أو أبواب في المنزل الذي يقطنه، إلى البدء في معالجة الأضرار، نظراً لاقتراب فصل الشتاء، ويقول إنه لا يملك أي قدرة على التكفّل بنفقات الأضرار التي لحقت بالمبنى التراثي الذي يعود إلى نحو 100 عام، خصوصاً في ظل الوضع الاقتصادي الصعب وحجز المصرف على أمواله. ويعتبر أنه يتعيّن على المستأجر أن يتكفل بمعالجة الأضرار. ويخلص إلى القول: "أنا لا أندم على الوضع الذي وصلت إليه، على الأقل ما زلت أستطيع النوم في منزلي، عكس الذين تهدمت بيوتهم أو أصبحت مهددة".
يوضح عبد الحليم جبر، وهو مهندس معماري وخبير تصميم مدني، في حديث مع "العربي الجديد"، أن عدد المباني التراثية الممهورة من قبل وزارة الثقافة محدود، لكن الأبنية التي لها قيمة تراثية بالمئات. ويقول جبر، الناشط في القضايا المدنية؛ خصوصاً التراث وقضايا التنقل المدني، والذي تطوع ضمن خلية مديرية الآثار عقب الانفجار، إن الضرر الذي تسبب به انفجار مرفأ بيروت طاول ثلاثة أنواع من المباني؛ أولها مبانٍ حجرية تعود إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى، وثانيها تسمى مباني مخلوطة (حجرية وباطون) وهي التي شيّدت بين الحربين العالمية الأولى والثانية، أما الثالثة فهي مبانٍ من التراث الحديث بين الاستقلال وسنة 1970 (نسبة إلى تعديل قانون البناء في عام 1969).
ويلفت إلى وجود ثلاثة أنواع من الأضرار يتم النظر إليها في مجمل هذه المباني التراثية؛ أولاً الأضرار الجسمية التي تتضمن تصدعات في الإنشاءات، والأعمدة، وسقوط جدران، وهذا الأمر لوحظ خصوصاً في الأبنية الحجرية وعددها أقل من 100، النوع الثاني هي الأضرار المتوسطة، أي أنها لا تشكل خطراً على تماسك المبنى، لكنه غير قابل للسكن حالياً، بسبب دمار طاول المطبخ، والحمامات، وسقوط الشرفات… أما النوع الثالث؛ فعبارة عن أضرار بسيطة تنحصر عادة في تحطم شبابيك وأبواب. والنوع الأخير هو الأسهل، وفقاً لجبر، لأنه تتم معالجته بمساعدة الجمعيات الأهلية والمتطوعين، لافتاً إلى أن الهدف من ذلك إعادة أكبر قدر من الناس إلى بيوتهم في أقرب وقت.
وبخصوص الأضرار المتوسطة، يوضح أن عدداً من الجمعيات ممن لديها قدرات مالية أقوى من المتطوعين بدأت في التحرك، وبرز ذلك على سبيل المثال في منطقة الكرنتينا حيث تجرى عمليات ترميم.
أما بخصوص الأبنية التي لحقت بها أضرار جسيمة، فيوضح جبر أن الأولوية الآن لحماية المبنى قبل حلول فصل الشتاء، لكي لا يزيد الضرر لأن الحجر كالإسفنج، ويتشرّب المياه التي من الممكن أن تتسرب من السقف إذا كان القرميد تعرض للضرر. كذلك توجد مخاوف على الخشب الذي استخدم في عمليات البناء قبل عقود.
وتحدث عن جهد يبذل من مديرية الآثار بالتعاون مع بعض شركات المقاولات للقيام بأعمال تدعيم وتغطية للأسقف لكي يتم كسب الوقت وإعادة الناس إلى بيوتهم من أجل الحفاظ على هوية المناطق. وبالتالي، فإن ما يجرى حالياً هو حماية مؤقتة، خصوصاً أنه لا توجد أموال للترميم. ويشدد على أن المسألة أبعد من مجرد تراث معماري يجب حمايته، لأنه يجب الحفاظ على هوية المدينة المكونة من النسيج العمراني والاجتماعي. ويشدد على أن عودة السكان لا تقدّر بثمن. ولا يخفي قلقه من أن البعض يرى في ما جرى فرصة لناحية الاستثمار العقاري في بعض المناطق التي يتيح فيها القانون ذلك.
بدورها، تقول مستشارة لجنة المستأجرين، المحامية مايا جعارة، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الوقت يداهم الجميع في ما يتعلق ببدء الترميم، لأننا على أبواب فصل الشتاء والتأخير خطير جداً لأن المهندسين يؤكدون أن الأبنية الرملية (الحجرية) خصوصاً قد تنهار، ما سيؤدي إلى مجزرة إضافية في حال هبوط الأبنية على قاطنيها، سواء أكانوا مالكيها أو مستأجرين فيها. وتلفت إلى أنه عقب انفجار مرفأ بيروت أصبحنا أمام قوة قاهرة، لا يمكن الحديث معها حول ما إذا كانت مسؤولية الترميم تقع على المالك أو المستأجر، بل الجهة المسؤولة عن الانفجار، وهو ما يستدعي تحرّكاً سريعاً من الدولة ممثلة في الهيئة العليا للإغاثة.