يصعب أن يجد زائر مواقع الصحف التركية هذه الأيام، أي مقال، ولو في قسم الرأي، عن أي منطقة أو موضوع خارج دائرة محاولة الانقلاب التركي وتداعياته. بكبسة زرّ، كأن تركيا عادت عقدا ونصف العقد إلى الخلف، إلى زمن ما قبل "العدالة والتنمية"، حين كان شعار "لا يهمنا كل ما يحصل في الخارج" سائداً. والخارج كان يستثني طبعاً المناطق حيث النفوذ التركي طاغٍ، فهو أقرب إلى الداخل، من قبرص الشمالية وكركوك وتتر القرم ومناطق آسيا الوسطى ومسلمي الأويغور حيث الرابطة التركمانية تقرّب المسافات من حدود الجمهورية. حتى أنباء حلب اختفت من المواقع التركية منذ صباح السبت.
لا مدعاة للمفاجأة نظراً لأن الحدث التركي صار الأبرز في العالم كله، لكن يحلو للبعض اعتبار هذا الاختفاء الإعلامي لـ"الخارج" عيّنة مما ينتظر تركيا ما بعد الانقلاب في الأشهر المقبلة على الأقلّ، لناحية أنها ستبقى غارقة في عمليتها الداخلية لفترة طويلة، وهو ما لا يمكن أن يحصل إلا على حساب الحضور التركي الدبلوماسي والنفوذ التركي في القضايا السورية والعراقية والفلسطينية والإقليمية عموماً، وفي قضية المهجرين ــ اللاجئين والعضوية الأوروبية والهموم الأطلسية...
كارثة كبيرة إن كان الأميركيون والأوروبيون لا يعرفون أن تلميح أردوغان إلى احتمال استئناف تنفيذ عقوبة الإعدام، ليس سوى خطوة لتهدئة الرأي العام وطمأنته إلى حتمية "الانتقام" من الانقلابيين، وورقة بيد أردوغان لإبقاء العصب الشعبي مشدوداً لمصلحته بطبيعة الحال. وكارثة أكبر في حال كان الأميركيون والأوروبيون أنفسهم يدركون ذلك جيداً، لكنهم يبحثون عن خيط يتمسكون به لمواصلة حربهم السياسية على حكم "العدالة والتنمية" الذي يظهر كأن طيفاً واسعاً من الغرب يبغضه منذ سنوات، على اعتبار أنه "ديمقراطية نعم، لكنها لا تخدم مصالحنا دائماً"، وفق ما يمكن أن يستشفه طالب سنة أولى علوم سياسية يتابع مقالات الرأي حول تركيا في الصحف الأوروبية والأميركية هذه الأيام.
تركيا ما بعد محاولة الانقلاب، ستكون لفترة طويلة نسبياً، دولة جريحة، وهو ما سيظهر خصوصاً في سياستها الخارجية، على شاكلة صمت حيال الملفات الساخنة المعنية فيها بشكل رئيسي. ستبقى الدبلوماسية التركية خافتة حتى ولو تحولت عناوين محاولة الانقلاب إلى مواد خام للسياسة الخارجية التركية في الفترة المقبلة. فشدّ الحبال بين أنقرة من جهة، وواشنطن والاتحاد الأوروبي وموسكو وعواصم العرب... من جهة ثانية، لن يكون بخدمة النفوذ التركي الدبلوماسي بأي حال، لأن الأعداء يحيطون بتركيا من الجهات الأربع، وتكاد أنقرة لا تجد حليفاً اليوم إلا في دول كقطر وبدرجة أقل السعودية، في مواجهة ضمنية أو علنية مع إمبراطوريات وقوى كبرى و"طفيليات" عربية صغرى.
يقول الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في حوار مع فضائية "الجزيرة" ليل الأحد، إن السعودية ربما شعرت أنه لو نجح الانقلاب في تركيا، ربما كان وصل دور الانقلابات إلى المملكة. وتخلص مطالعة خاشقجي إلى ملاحظة ثانية مفادها أن السعودية قد تكون أكبر الخاسرين من محاولة الانقلاب، من بعد تركيا، في السياسة الخارجية، لأن المملكة لن تكون قادرة على أداء دور كبير في سورية من دون تركيا، التي بدورها لن تكون، بعد الانقلاب طيلة أشهر ربما، قادرة على أداء دور فاعل سورياً أيضاً، بما أن الثقة صارت مضروبة في مؤسستها العسكرية التي تعيش، وستعيش، عمليات جراحية توجب تجميد أي مشاريع "طموحة" للعسكر دور فيها، أكان ذلك في تدخل عسكري ما، أم في دعم فصائل المعارضة المسلحة، أم في "محاربة الإرهاب" أم إحباط التمدد العسكري الكردي على الحدود وفي الداخل التركي... كل ذلك من دون الحديث عن الاهتزاز الأمني بعد الانقلاب على صعيد محاربة "داعش".
أزمة الثقة بالجيش ستنعكس أيضاً على التعاون التركي ــ الأطلسي، تسليحاً وتدريباً وتعاوناً أمنياً، لأن تركيا ستعود النظرة إليها عسكرياً، على أنها بلد مهدد بالانقلابات. كل ذلك في حال ظلت "النوايا صافية" وبقي استبعاد أي دور خارجي ــ أطلسي في محاولة الانقلاب، على الرغم من أن التاريخ يفيد بأن معظم الانقلابات التركية في العقود الخمسة الماضية كانت بتدبير و/أو موافقة و/أو تآمر أطلسي ــ أميركي.
ربما حملت محاولة الانقلاب العسكري خبراً ساراً وحيداً للمتمسكين بدور تركي متعاطف مع قضايا عربية مركزية، ومناهض لعواصم الثورات المضادة: الخبر السار هو أنه من المرجح تجميد خطوات كبيرة مقبلة في إطار "إعادة النظر" التي تجريها أنقرة لخياراتها الخارجية المركزية، والتي بدأت بمصالحة مع إسرائيل وأخرى مع روسيا، وكادت تصل إلى أفكار تطبيع مع النظامين السوري والمصري، فأغلب الظنّ أن أنقرة لن تكون مستعدة قريباً لورشة خارجية بهذا الحجم في ظل حجم الضربة الداخلية وارتداداتها والوقت والجهد المطلوبين لمعالجة ما حصل وتلافي ما يمكن أن يحصل.