نتعرف في مسلسل ترجمان الأشواق، من إخراج محمد عبد العزيز الذي شارك بشار عباس في كتابة السيناريو، على حكاية ثلاثة من الناشطين اليساريين السوريين المعتقلين سابقاً، الذين يلتقون في دمشق إثر عودة واحد منهم نجيب (عباس النوري) إلى سورية التي هرب منها ليبحث عن ابنته المخطوفة، فيستعيد صداقته مع الطبيب شبه الصوفي زهير (غسان مسعود) وكمال، اليساريّ المبتذل (فايز قزق). ما يهمنا في هذا المسلسل، أو على الأقل في الحلقات التي بثت حتى الآن، هو طبيعة الأعمال الفنيّة والمنتجات الثقافيّة التي تحضر ضمنه، سواء كانت ديكوراً في خلفيات المشاهد، أو أغراضاً تتفاعل معها الشخصيات وتتعرف على حكاياتها، لأن هذه الأغراض تُساهم في رسم ملامح الفضاء الذي تدور ضمنه الأحداث، وترسم الحدود الجماليّة والسياسيّة التي تتحرك ضمنها الشخصيات، التي تكسبها معنى جديداً، أو تأخذ منها موقفاً، سواء بتجاهلها، أو التعليق عليها، ما يكسب هذه "المنتجات الثقافيّة" حكايات وسياقات جديدة تختلف عن تلك الأصليّة، وتضاف إلى قيمتها التاريخيّة والجماليّة.
الحرية السياسيّة
في الحلقة الأولى من المسلسل، في غرفة الجلوس، ضمن إطار حديث بين والدة الفتاة المخطوفة (سلمى المصري) وزوجها الجديد، نرى في الخلفيّة مشهداً من حلقة مسلسل "مرايا 97" ، الحلقة تتحدث عن حذلقة موظف عاديّ وانتحاله صفة رجل مهم لتسيير أموره الرسميّة وغير الرسميّة، وضمن صوت القصف والتلفاز والنقاش بين الزوجين عن جدوى قدوم نجيب من السفر، يبدو ظهور هذا المسلسل الكوميدي أشبه بسخرية من الصناعة الثقافيّة السورية نفسها، وكيف تغيرت الحرية السياسيّة حينها والآن، وكأن هذا التعليق حوار بين الزمن الماضي، زمن "الأمن والأمان" وشخصياته الكاريكاتوريّة، والزمن الحاليّ الذي تغيرت فيه حدود حرية التعبير، لكنها ما زالت قائمة، بل أصبحت أكثر شدّة في التعامل مع المنتجات الثقافية، كحالة ترجمان الأشواق نفسه الذي منعته الرقابة مسبقاً.
ما يثير الاهتمام، أن الحلقة في مسلسل "مرايا" تناقش رغبة شاب في السفر لإكمال دراسته، وكيف فشل بالتحذلق، وكاد أن يُعتقل. أما ما يحدث في غرفة المعيشة، فهو نقاش زوجين عن جدوى عودة معتقل سياسيّ للبحث عن ابنته المخطوفة، لنرى أنفسنا أمام صورتين متناقضتين لمسافر من سورية وعلاقته مع المؤسسة الرسميّة، سواء كان مازحاً ومتحذلقاً كالطالب في "مرايا"، أو ثائراً جديّاً كنجيب الذي فرّ خارجاً.
فوضى العلامات
نشاهد في المكتبة التي يمتلكها كمال أورجي بعض العلامات السيميائيّة والمنتجات الثقافيّة الحمراء والشيوعيّة. هناك تركيز على مفاهيم اليسار والشيوعيّين المبتذلين، وكتب لينين وماركس، وكل ما يمتّ للماديّة التاريخيّة، في محاولة لرسم صورة شبه كاريكاتوريّة للمثقف السوري اليساري الذي نجا من سنوات الاعتقال، ونجا حين عودته إلى سورية كحالة نجيب، الذي بغرابة لم يُعتقل مباشرة في مطار دمشق، بالرغم من أنه مطلوب. المثير في المكتبة، هو مجموعة الصور التي نراها على الجدران؛ هناك صور لكتاب ومفكرين عالميين، كماركس وهمينغواي، وساراماغو، وسوريين أيضاً، مثل سليم بركات. لكن المثير للاهتمام هو صورة نزيه أبو عفش، الذي يتغنّى بالبراميل وبفلادمير بوتين، والذي أصبح الآن مثال الشاعر الذي فقد عقله إثر عبادته للسلطة. كذلك، نشاهد صورة لـ غرندايزر بطل الثقافة الشعبيّة وأفلام الكرتون، بالتالي يمكن فهم هذا الفضاء بوصفه إحالة لمفهوم "الثقافة" نفسها، وتحول رموزها إلى مجرد ملصقات وصور للزينة، وشكل من أشكال الكيتش الذي يُتداول ويُستنسخ إلى ما لا نهاية، ويختلط فيه الشخصي مع العلني، المبتذل مع ذي القيمة الجماليّة، لتكون المكتبة وما فيها أشبه بكولاج للهزائم، كل ما فيه يدلّ على الخذلان والسلطة الرثة، سواء كانت سلطة الأب، كصورة والد صاحب المكتبة الخرف (حسام تحسين بيك) التي نراها معلقة، أو السلطة الرمزيّة لأيقونات الثقافة، وكأن الشخصيات نفسها في المسلسل أشبه بأشباح كوميديّة، تتحرك في عالم هش انهار عليهم وهم يتمسكون فقط بصوره وكلماته.
نُسخ عبدلكي
الحلقات التي بثت إلى الآن من العمل مليئة بالرموز الثقافيّة والأعمال الفنيّة، لكن أكثرها وضوحاً ولفتاً للانتباه هي لوحات التشكيلي السوريّ يوسف عبدلكي، التي لا نعلم إن كانت أصلية أم نسخاً عنها. تظهر أمامنا لأول مرة في الحلقة الثانية في غرفة نجيب، التي نشاهد فيها ثلاث لوحات لعبدلكي، رمز النضال الشيوعي في سورية والفنان الصامد الذي واجه السلطة، وهو لا يرى مشكلة في رسم لوحات لموديلات عارية.
لكن قبل الخوض في سياق اللوحات التي نراها في الغرفة، لا بد من الإشارة إلى أن واحدة من اللوحات التي نراها تحمل اسم "الطائر والسكين" وقد أنجزها عبدلكي عام 2012، لكنها موجودة في غرفة نجيب الذي ترك البلاد منذ سنوات طويلة قبل الثورة بكثير. مع ذلك، ما يهمنا يتجاوز تاريخ عبدلكي النضاليّ ولوحاته التي تأتي متسقة للوهلة مع فضاءات العمل، إذ نحاول فهم الحكايات المحيطة بها، والسياقات "الجديدة" التي تُوضع فيها، والتي نتلسمها في اللوحة الموجودة في غرفة ابنة نجيب المخطوفة، التي تحب السينما، وفي غرفتها صور للمخرجين محمد ملص والراحل عمر أميرالاي. حين يقف نجيب أمام لوحة لعبدلكي نرى فيها عصفوراً ميتاً، تتتالى أمامنا لقطات تخبرنا بحكاية ما للصورة، تبدأ بابنته المفقودة التي يقف في غرفتها، ثم تسجيل منزلي قديم لعصفور بريء يطرق على نافذة يحاول الدخول، ثم مقطع لإعدام فتاة من قبل جهاديين في محاكاة لفيديوهات داعش.
هكذا، تصبح اللوحة اختزالاً لذاكرة الشخصية والاختطاف، وهما الحدثان اللذان ينتميان إلى حكاية المسلسل، ومحاكاة للعنف السياسي الإرهابي المتمثل في مشهد الإعدام الذي يحاكي صور الرعب التي أنتجها التنظيم، ولطالما مارسها النظام من دون بثها مثلما يفعل "داعش". هذا التتالي، أكسب اللوحة حكاية جديدة، يبنيها السياق ويضيف إلى معانيها الرمزيّة عبر الجهد الجمالي المبذول خارج إطارها، والذي نراه في العلاقة بين العصفور، والفتاة المخطوفة، وتلك التي قتلت، والتي ربما كانت تخيّلاً من عقل نجيب.
يحيلنا الشكل الجماليّ السابق إلى سياسات الاقتباس التي يمارسها العمل الفنيّ، والتي يستحضر فيها ما ينتمي إلى أعمال أخرى، فالاقتباس أشبه بعملية جراحيّة تختلف درجة إتقانها، وتدّعي تحرير الأصل من سياقه، ليظهر كاملاً، أو أجزاء منه ضمن شكل فنيّ آخر، ضمن إطار جديد يكسبه قيمة "معاصرة"، وقدرة على قراءة الراهن وأخذ موقف منه. كما أن الاقتباس يعيد النظر في تاريخ هذا المقبوس وقيمته. لن نناقش هنا الإتقان في هذه العمليّة، بل الإطار الذي تظهر ضمنه الأعمال المقتبسة والحكايات المحيطة بها وعلاقتها مع الماضي والحاضر؛ فالشابة المختطفة التي تضع لوحة لـ عبدلكي، تحيلنا إلى الجيل الشاب الذي يحتفي بالماضي ورموزه التي رفضت الحراك الثوري. هنا، يمكن فهم سبب غياب صور أو رموز لمعارضين من الطيف الواسع للسوريين الذين تركوا البلاد، لكن حضور هذه المقبوسات الفنيّة والثقافيّة، يحيلنا إلى حكاية واضحة عن الطاعة وأشكالها، والمنتجات "المسموحة" التي لا مانع من تداولها أو حتى الاحتفاء بها، في ترسيخ لحكاية وطنية هزيلة. صحيح أن الفتاة المخطوفة متأثرة بوالدها، ويبدو امتلاكها للوحة لعبدلكي مبرراً، لكنه يعكس طبقة أو شريحة من الشباب في سورية التي تشارك الجيل الخاسر أحلامه بالتغيير اللطيف، والنضال المبتذل، وعدم المواجهة مع السلطة، بل الإيمان الساذج بأن "المؤسسات للشعب"، وليست ملكاً لنظام الأسد. والأهمّ، أن تبنّي الابنة المخطوفة لذوق أبيها الفنيّ، يتركنا أمام تساؤلات عن علاقتها مع السلطة في السياق البسيط، وهي سلطة الأب. في ذات الوقت، من الممكن أن تكون مجرد تبنٍّ لذكراه وما يحبه، كونه كان دائم البُعد عنها.
لا يمكن حسم التساؤلات حول سياسات الاقتباس هذه، وطبيعة التعليقات على الأعمال الفنيّة كونها مفتوحة للتأويل، لكن يبقى حضورها بارزاً كونها جزءاً من الصيغة الجماليّة لفضاءات المسلسل وكيفية إنتاج الحكايات ضمن هذه الفضاءات.