ترجمات الموت في غزّة

21 نوفمبر 2019
(مقطع من عمل لـ هاني زعرب/ فلسطين)
+ الخط -

الترجمة السياسية للموت ليست أخلاقية بطبيعتها. ولذا لا يُصغى إليها، غالبًا، أثناء الانفعال العاطفي المتصل بالدم المسفوك، والقتل المستمر، والفقد الأليم. ذلك لشدّة وضوحها وترفها النظري وفجاجتها الجارحة.

ولعلّ في يوميات الغَزييّن والغَزيّات ترجمة معاكسة لها يمكن تسميتها الترجمة الأخلاقية للموت. حيث يعيشون تجاربه، ويصارعون جولاته، ويكتبون مكابداته، ويُعبّرون عنها في مساءلة طويلة لهذا الموت بوصفه زمنًا ثابتًا لعُدوان خارجيّ مستمر، توظّفه منظومة الاحتلال عبر زمنها المُتحرّك ضد وجود فلسطيني تعزله داخل سجن جغرافي محاصر.

مطالبة دموية يرفعها المحتل إلى المحاصرين والمعزولين والعزّل لإدارة توازناته الداخلية، وصراعاته المتوافقة على تقييد فاتورة يُسدّدها لهم الفلسطيني بموته. بينما تُراكم التجارب السابقة لحروب العدوان أسئلةً تطرح على المقاومة وسلطاتها التي لا تصدّ الموت، ولا تمنعه، بقدر ما ترد على آلته المتفوقة عسكريّاً بما تعتبره ميزانًا للردع، وشرطًا ممكنًا ضمن قواعد الاشتباك، وبما يقدّم ترجمة ثالثة لوجودها، ويفتح نقاشًا حول ضرورتها وجدواها، عبر تقديم سردية مقنعة لحاضنتها المؤيّدة لها حول الموت نفسه وأثمانه ومخرجاته.

إن المقاومة لا تعني شيئًا إذا لم تتقلّص "إسرائيل" - روايةً ووجودًا - في الوعي والجغرافيا واللغة. وهي محل نقد باعتبار سلطة المقاومة في غزّة تحتكر هذه المقاومة مثلما تحتكر الدين والزمن الثابت للموت وترجماته، وتلعب دور الشرطي على فصيلها وغيرها من الفصائل.

ليس المهم في نقاش الجولة الأخيرة للعدوان على غزّة مَن هم داخل المعركة ومن خارجها. المهم أن نوعًا من الاستفراد الأحادي بالفلسطينيّين تمارسه "إسرائيل"، وتضبط إيقاعه، في ظل غيابٍ كاملٍ لـ"الكيانيّة" الفلسطينية، والتمثيل الوطني الذي يُفترض به أن يكون جامعًا وعابرًا لجغرافيات الضفّة وغزّة وشتات اللجوء وحتى الداخل العميق للأرض المحتلة. ومن مظاهره أن يُترك فصيل مقاوم للتفاوض مع الاحتلال منفردًا، باعتبار المعركة تدور بين طرفين واضحين ومحدّدين، وأنّ "ولاية الدمّ" الناتجة عن عمليات الاغتيال، وما يلحقها من تبعات، تخصه وحده.

وترجمة ذلك الاختراق تشي بسوء طالع ينتظر الفكرة المقاومة معنويًا، والتنظيم المادي لها على نحو خاص، باعتبار الفصيل صاحب الثأر المحليّ والمرحلي ملحقًا بالخارج عبر ربطه باستهداف آخر في دمشق؛ ما يعني التمهيد لخروجه من معادلة غزّة، والتقليل من تأثيره في سياقاتها، بالقوّة.

حركات المقاومة ليست شيئًا واحدًا. هي خليط وفصائل وتوازنات. الأهم، عمليًا، أن لها سلطة سياسية لا تقبل بمنازعتها على التمثيل والاحتكار والحضور. والمفارقة أنها لم تمثّل المعركة الأخيرة، ولم تركب موجتها، بل غابت عنها تمامًا. بمعنى أنّ سقف هذه الجولة سقف لهذه السلطة. سقف لمسيرات العودة السلميّة، وسقف لاستمرار "التهدئة" و"التفاهمات" مع "إسرائيل".

لا يكفي القول بفساد الخطاب الإنسانوي في سياق تناوله للحرب على الضعفاء، لأنه تفريع في مستوى الفرد لا تأصيل في مستوى الجماعة، واجتزاء في مستوى الصورة لا اكتمال في مستوى المشهد. إذ الصورة تصنعها اللحظة، ويلتقطها الناظر/ المُصوّر من زاويته الخاصة المحمولة على وجهة نظره.

أما المشهد فيصنعه السياق، وتحكمه الأداة، وتستنطقه طريقة التحليل. ومثاله: تجريد اليهودي من صهيونيته وترسانته ودولته القائمة على أساس النفي والمحو والإحلال. في مقابله، يبدو الإنسان الفلسطيني عارياً ومجرّداً من كل شيء، بوصفه ضحية يلومها هذا الخطاب على فشلها في امتلاك إرادتها. بل تجدر الإشارة، أيضًا، إلى صورة أخرى لفساد طاقة الخرس لمن يملك طاقة الكلام والمتمثلة بالهروب في حالة القدرة، والصمت والتهويم والتواري ليس بدعوى العجز، إنما حمايةً لسلطة المقاومة وحساباتها السياسية تحت شعار "الحكمة" الاستعلائي، واستخدامًا لدعاية: أننا نعرف أكثر منكم، وأنّ الغامض الذي لا يفهمه جمهور المزايدين أو المؤيّدين يصل حد القداسة، ولذا يصعب التصريح المباشر به حِفظًا لخصوصيات هذه القداسة وسريّتها!

ما يجري من "عقلنة" للخطاب، وما يتّصل به من سكوت مُنطوٍ على عجز ونكوص، ليس أكثر من عقلنة للخراب ذاته، واعتراف كامل بأن الموت الفلسطيني سوف يكون مجانيًّا، وأن المقاومة بؤرة مستهدفة ومكشوفة، لا توازن بمجموعها، ولا تردع على نحو مشترك، لدرجة سوف تخجل منها ابنة الشهيد القائد بهاء أبو العطا لتقول: كان من الأجدى أن يحضر أبي عيد ميلادي!


* شاعر فلسطيني من الخليل

المساهمون