01 نوفمبر 2024
ترامب وبولتون.. طلاق بائن بين نهجين
يختزل قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، طرد مستشاره الثالث للأمن القومي، جون بولتون، حالة الفوضى التي تعيشها إدارته، والولايات المتحدة كذلك، في السنوات الثلاث الماضية. بولتون هذا سياسيٌ يمينيٌ شديد التطرّف، تأزيميٌّ وقارع طبول حرب في اتجاهات شتى، تجد أصابع عبثه ممتدة من العلاقات الأطلسية – الأطلسية، ضمن المنظومة الغربية، إلى العلاقات مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، إلى إيران وأفغانستان، مرورا بالقضية الفلسطينية، ووصولا، لا انتهاء، بفنزويلا. ويكفي أن يُذكر هنا أنه أحد مهندسي العدوان الأميركي الكارثي على العراق عام 2003 إبّان خدمته في إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن طرده (أو استقالته كما يصرّ)، تعبير آخر، ضمن تعابير كثيرة، عن إدارة تائهة مشتتة، لا تكاد تعرف لها موقفاً أو سياسية جرّاء شخصية ترامب الرعناء، العصية على التنبؤ بتحرّكاتها وأفعالها المتناقضة التي يصعب تقديم تفسير منطقي لها.
في سياق تبريره قرار طرد بولتون، تحدّث ترامب عن اختلافه مع آراء كثيرة للرجل ومقارباته المتشدّدة، كما في تلويحه الضمني لكوريا الشمالية، في إبريل/ نيسان 2018، بـ"النموذج الليبي" ومصير الرئيس الأسبق، معمر القذافي، وهو ما أثار غضب الأخيرة، وكاد يعصف بالمفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، والتي لم تتمخض عن شيء. وأيضا، لم ينس ترامب أن يغمز من قناة بولتون عبر التذكير بدوره في غزو العراق، واستهزأ به قائلا: "إنه (بولتون) معروف كشخص قوي. لقد ورّطنا في العراق". اللافت هنا أن ترامب عرض المنصب على بولتون في مارس/ آذار 2018، بعد أن وصل إلى طريق مسدود مع مستشاره السابق للأمن القومي، الجنرال، هربرت ريموند مكماستر، حول قضايا مثل أفغانستان وكوريا الشمالية وإيران. لم يكن ثمة ناظم موضوعي حينها (ولا زال الحال كذلك) لمواقف ترامب، فهو بدأ بالتصعيد مع كوريا الشمالية وتبادل التهديدات مع زعيمها، كيم جونغ أون، بحربٍ نووية، وصولا إلى الحديث عن "رسائل حب" متبادلة بينهما. ثمَّ إنه كان يريد الانسحاب من أفغانستان، ولكن مكماستر أقنعه بزيادة عدد القوات الأميركية هناك، وهو ما بقي غصّة في حلق ترامب. وفي حين كان مكماستر يحاول إقناع ترامب بالإبقاء على الاتفاق النووي مع إيران، كان الأخير مصرّا على الخروج منه. هذه القضايا، وغيرها، دفعت مكماستر خارج الإدارة، وجاءت ببولتون مكانه، والذي كان يتابعه ترامب على القناة اليمينية، فوكس نيوز، وكان معجبا بآرائه المتشدّدة، وتحديدا حيال إيران.
ولكن غياب الناظم الموضوعي والسياق المنطقي في تفكير ترامب ومواقفه وسياساته سيكون
السبب هذه المرة، أيضا، في التخلص من بولتون. مثلا، بولتون معروفٌ بعدائه الشديد لروسيا، وهو كان يجادل دائما بضرورة دعم أوكرانيا عسكريا. ولكن ترامب الذي ينشد تقاربا غامضا مع روسيا، ومع شخص الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يبدو أنه لم يُعر انتباها كافيا لآراء بولتون تلك، وهو يعينه في منصب مستشاره للأمن القومي، فكانت هذه إحدى أرضيات احتكاكهما. أيضا، لم يكن بولتون يخفي، قبل توليه منصبه، ولا خلاله، عداءه الشديد لكوريا الشمالية، وهو دائما ما دعا إلى توجيه ضربة عسكرية استباقية لها. في البداية، كان هذا قريبا من موقف ترامب نفسه، ثم اتضح أنه موقفٌ شعاراتي، قبل أن ينزل عن الشجرة بطريقة غير منطقية، ويتوجه إلى التفاوض مباشرة مع كيم، وكانت هذه أرضية ثانية للتوتر بين ترامب وبولتون. الأمر نفسه في السياق الفنزويلي، حيث بدأ ترامب، مطلع العام الجاري، متوافقا مع بولتون في دعم موقف زعيم الجمعية الوطنية، خوان غوايدو، في نزاعه مع الرئيس نيكولاس مادورو، على الرئاسة والشرعية، قبل أن يبدأ ترامب بالتذمّر، مع فشل الخطط الأميركية، من أن مستشاره للأمن القومي يدفع باتجاه توريطه في عمل عسكري في فنزويلا.
كل ما سبق في كفّة، والملفان الأفغاني والإيراني في كفّة أخرى، حيث كانا السبب الرئيس للطلاق البائن بين الرجلين. وإذا كان ثمّة شيء تعلمه شخص بتشدد بولتون فهو أن ترامب ليس رجل التناقضات الصارخة فحسب، بل هو أيضا رجل الشعارات الكبيرة والأفعال الصغيرة، في أحيان كثيرة. في السياق الأفغاني، كان ترامب، مرشّحاً، قد تعهد بالانسحاب من أفغانستان، أطول الحروب العسكرية الأميركية، غير أنه انتهى معزّزا للوجود العسكري الأميركي فيها، وهو الآن يسابق الزمن كي يفي بوعده عبر تخفيض، على الأقل، الوجود العسكري الأميركي هناك قبل الانتخابات الرئاسية أواخر العام المقبل. المفارقة أن ترامب فاجأ الولايات المتحدة، والعالم، بتغريدة على "تويتر"، يوم الاثنين الماضي، أعلن فيها إلغاء قمة سرّية كان ينوي عقدها مع زعماء في حركة طالبان في منتجع كامب ديفيد الرئاسي، لتوقيع اتفاقية سلام بين الطرفين. وعلى الرغم من أن ترامب زعم أن سبب إلغائه القمة هجوم شنته "طالبان" في العاصمة كابول، راح ضحيته جندي أميركي وأحد عشر شخصا، إلا أن تقارير أكدت أن سبب إلغائه القمة تسريبات بولتون المستاء منها إلى الصحافة، فأراد ترامب أن يستبق الفضيحة المدوّية التي كانت ستترتب على ذلك. ولا تخفى هنا المفارقة اللافتة، فالقمة المفترضة كانت ستعقد مترافقة مع الذكرى الثامنة عشرة لهجمات "11 سبتمبر" في 2001، في نيويورك وواشنطن، والتي بسببها غزت الولايات المتحدة أفغانستان، وأسقطت حكم "طالبان"، بذريعة توفيرها ملاذا آمنا لتنظيم القاعدة الذي تبنّى مسؤولية الهجمات.
وفي ما يتعلق بالملف الإيراني، وهو قد يكون السبب الأبرز لإقصاء بولتون، فإن المفارقة فيه أكثر فجاجة، حيث كان بولتون مثل رجع الصدى لمواقف ترامب، قبل توليه الرئاسة وبعد ذلك، قبل أن يبدأ بتغيير موقفه بشكل غير منطقي. لم يتوقف ترامب، حينما كان مرشّحا عن مهاجمة الاتفاق النووي مع إيران، والذي فاوضت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، عليه. ودائما ما انتقد ترامب الاتفاق على أساس أنه "معيبٌ في جوهره"، وبأنه لا يمكن "منع تصنيع قنبلة
نووية إيرانية بموجب الهيكل المتداعي المتعفن للاتفاق الحالي". أبعد من ذلك، لم يتردّد ترامب في اتهام مفاوضي إدارة أوباما بـ"الغباء"، ذلك أن الاتفاق، وعلاوة على أنه لا يلغي قدرة إيران على امتلاك السلاح النووي، كما يقول، فإنه أيضا أهمل برنامجها للصواريخ الباليستية وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وفعلا، لم يأت شهر مايو/ أيار 2018، إلا وكان ترامب يسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، على الرغم من المناشدات الأوروبية، والتحذيرات الروسية والصينية. كما أنه فرض عقوباتٍ صارمةً على إيران وصادرات نفطها. لم يكن بولتون غائبا عن المشهد، فهو أحد مهندسي سياسة ترامب، حينها، حيال الاتفاق النووي، مع أنه لم يكن مضى على توليه منصبه حينئذ شهر.
راهن ترامب حينها على أن إيران ستأتيه طائعةً متوسلةً اتفاقا نوويا جديدا يضع عليه بصمته. لم يكن الاتفاق سيئا من وجهة نظر وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، كما أن مؤسستي الجيش والاستخبارات كانتا ضد خروج الولايات المتحدة منه. أهمل ترامب ذلك كله، كل ما أراده اتفاق يضع اسمه عليه نكاية بأوباما، فكراهيته وحسده للأخير تمثل أرضية كثير من قراراته الرعناء، إلا أنه وجد نفسه أمام إصرار وعناد إيراني كبيرين، ولم تبد إيران أي بادرةٍ أنها ستصرخ أولا في لعبة عض الأصابع، بل إنها غرزت أسنانها أكثر في الأطراف الأميركية، فاستهدفت ناقلات النفط تخريبا ومصادرةً في مضيق هرمز، وهدّدت الملاحة الدولية فيه، وأسقطت طائرة أميركية مسيّرة في شهر يونيو/ حزيران الماضي. وبعد أن حبس العالم أنفاسه، تحسبا لضربة أميركية انتقامية، فاجأه ترامب بإلغاء تلك الضربة. لم تكن إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين وحدهم من استشاطوا غضبا، بل بولتون كذلك، والذي لم يتردّد ترامب، حينها، باتهامه بأنه يدقّ طبول حربٍ لا يريدها هو شخصيا. أما ثالثة الأثافي بالنسبة لبولتون، حسب معلومات من داخل البيت الأبيض، فكان إعلان ترامب، في اجتماع لإدارته، قبل أيام، عن استعداده لتخفيف العقوبات على طهران، إن وافق الرئيس الإيراني، حسن روحاني، على الالتقاء به في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأسبوع المقبل في نيويورك. لم يستطع بولتون تحمّل ذلك، ولم يعد بمقدور ترامب أن يتحمّل أكثر من يذكّره بتناقضاته وفوضاه في السياسة والمواقف.
إذاً، كان هذا الطلاق البائن بين الرجلين مسألة وقت منذ اليوم الأول، فبولتون إيديولوجي شرس، يرى أميركا في حروبٍ متواصلة، وترامب رئيسٌ سخيف، كثير جعجعة، قليل فعل، يبحث عن أي إرثٍ شخصي يسطّر به تاريخه، بغض النظر عن مدى الضرر الذي يلحقه مثل ذلك المجد الذاتي المنشود بالولايات المتحدة ومصداقيتها وقوة ردعها.
ولكن غياب الناظم الموضوعي والسياق المنطقي في تفكير ترامب ومواقفه وسياساته سيكون
كل ما سبق في كفّة، والملفان الأفغاني والإيراني في كفّة أخرى، حيث كانا السبب الرئيس للطلاق البائن بين الرجلين. وإذا كان ثمّة شيء تعلمه شخص بتشدد بولتون فهو أن ترامب ليس رجل التناقضات الصارخة فحسب، بل هو أيضا رجل الشعارات الكبيرة والأفعال الصغيرة، في أحيان كثيرة. في السياق الأفغاني، كان ترامب، مرشّحاً، قد تعهد بالانسحاب من أفغانستان، أطول الحروب العسكرية الأميركية، غير أنه انتهى معزّزا للوجود العسكري الأميركي فيها، وهو الآن يسابق الزمن كي يفي بوعده عبر تخفيض، على الأقل، الوجود العسكري الأميركي هناك قبل الانتخابات الرئاسية أواخر العام المقبل. المفارقة أن ترامب فاجأ الولايات المتحدة، والعالم، بتغريدة على "تويتر"، يوم الاثنين الماضي، أعلن فيها إلغاء قمة سرّية كان ينوي عقدها مع زعماء في حركة طالبان في منتجع كامب ديفيد الرئاسي، لتوقيع اتفاقية سلام بين الطرفين. وعلى الرغم من أن ترامب زعم أن سبب إلغائه القمة هجوم شنته "طالبان" في العاصمة كابول، راح ضحيته جندي أميركي وأحد عشر شخصا، إلا أن تقارير أكدت أن سبب إلغائه القمة تسريبات بولتون المستاء منها إلى الصحافة، فأراد ترامب أن يستبق الفضيحة المدوّية التي كانت ستترتب على ذلك. ولا تخفى هنا المفارقة اللافتة، فالقمة المفترضة كانت ستعقد مترافقة مع الذكرى الثامنة عشرة لهجمات "11 سبتمبر" في 2001، في نيويورك وواشنطن، والتي بسببها غزت الولايات المتحدة أفغانستان، وأسقطت حكم "طالبان"، بذريعة توفيرها ملاذا آمنا لتنظيم القاعدة الذي تبنّى مسؤولية الهجمات.
وفي ما يتعلق بالملف الإيراني، وهو قد يكون السبب الأبرز لإقصاء بولتون، فإن المفارقة فيه أكثر فجاجة، حيث كان بولتون مثل رجع الصدى لمواقف ترامب، قبل توليه الرئاسة وبعد ذلك، قبل أن يبدأ بتغيير موقفه بشكل غير منطقي. لم يتوقف ترامب، حينما كان مرشّحا عن مهاجمة الاتفاق النووي مع إيران، والذي فاوضت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، عليه. ودائما ما انتقد ترامب الاتفاق على أساس أنه "معيبٌ في جوهره"، وبأنه لا يمكن "منع تصنيع قنبلة
راهن ترامب حينها على أن إيران ستأتيه طائعةً متوسلةً اتفاقا نوويا جديدا يضع عليه بصمته. لم يكن الاتفاق سيئا من وجهة نظر وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، كما أن مؤسستي الجيش والاستخبارات كانتا ضد خروج الولايات المتحدة منه. أهمل ترامب ذلك كله، كل ما أراده اتفاق يضع اسمه عليه نكاية بأوباما، فكراهيته وحسده للأخير تمثل أرضية كثير من قراراته الرعناء، إلا أنه وجد نفسه أمام إصرار وعناد إيراني كبيرين، ولم تبد إيران أي بادرةٍ أنها ستصرخ أولا في لعبة عض الأصابع، بل إنها غرزت أسنانها أكثر في الأطراف الأميركية، فاستهدفت ناقلات النفط تخريبا ومصادرةً في مضيق هرمز، وهدّدت الملاحة الدولية فيه، وأسقطت طائرة أميركية مسيّرة في شهر يونيو/ حزيران الماضي. وبعد أن حبس العالم أنفاسه، تحسبا لضربة أميركية انتقامية، فاجأه ترامب بإلغاء تلك الضربة. لم تكن إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين وحدهم من استشاطوا غضبا، بل بولتون كذلك، والذي لم يتردّد ترامب، حينها، باتهامه بأنه يدقّ طبول حربٍ لا يريدها هو شخصيا. أما ثالثة الأثافي بالنسبة لبولتون، حسب معلومات من داخل البيت الأبيض، فكان إعلان ترامب، في اجتماع لإدارته، قبل أيام، عن استعداده لتخفيف العقوبات على طهران، إن وافق الرئيس الإيراني، حسن روحاني، على الالتقاء به في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأسبوع المقبل في نيويورك. لم يستطع بولتون تحمّل ذلك، ولم يعد بمقدور ترامب أن يتحمّل أكثر من يذكّره بتناقضاته وفوضاه في السياسة والمواقف.
إذاً، كان هذا الطلاق البائن بين الرجلين مسألة وقت منذ اليوم الأول، فبولتون إيديولوجي شرس، يرى أميركا في حروبٍ متواصلة، وترامب رئيسٌ سخيف، كثير جعجعة، قليل فعل، يبحث عن أي إرثٍ شخصي يسطّر به تاريخه، بغض النظر عن مدى الضرر الذي يلحقه مثل ذلك المجد الذاتي المنشود بالولايات المتحدة ومصداقيتها وقوة ردعها.