لا يختلف اثنان في إسرائيل على أنّ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن وجوب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السوري المحتلة، هو أفضل هدية كان يمكن لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يتوقّعها في التوقيت الحالي. إذ يأتي في أوج معركة انتخابية، يصارع فيها نتنياهو بالأساس لتفادي وصمه بالفاسد ومتلقي الرشاوى، والأخطر من ذلك، أن يكون قد أضرّ بالأمن الإسرائيلي، عبر موافقته على بيع ألمانيا لغواصات متطورة لمصر، خدمة لشركة الصلب والفولاذ "sea drift" التي يملكها ابن عمه الأميركي نتان ميلكوفسكي، والتي كانت لنتنياهو أسهم فيها قبل أن يبيعها عام 2010 بأربعة ملايين دولار.
هذا كله يجعل إعلان ترامب هدية انتخابية من الدرجة الأولى؛ لأنه يزيح الأنظار عن إشكالية قضية الغواصات والعلاقة بشركة الصلب الأميركية، ويمنح نتنياهو تفوقاً سياسياً على خصمه الرئيسي، الجنرال بني غانتس، لجهة تأكيد صحة سياسته ورهانه المطلق على الإدارة الأميركية بقيادة ترامب. ولا يقف الأمر عند هذا الحد انتخابياً لجهة توقيته، فهو يستبق أيضاً الأسبوع الإسرائيلي المقبل في واشنطن، إذ يُنتظر أن يشارك نتنياهو وغانتس في المؤتمر السنوي لمنظمة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة "أيباك". وقد زاد ترامب في انسياقه وتجنّده لصالح نتنياهو بإعلانه أنه سيستقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية في البيت الأبيض، بما يمنح الأخير نقطة إضافية يتفوّق فيها على خصمه غانتس، الذي سيكون عليه الاكتفاء بالمشاركة في مؤتمر "أيباك" ومخاطبة أعضاء المؤتمر من مختلف المنظمات اليهودية الصهيونية في الولايات المتحدة.
لكن رغم ذلك، فإنّ إعلان ترامب يتعدّى كلياً الهدية الانتخابية لجهة توقيته، إذ أشارت صحف إسرائيلية مختلفة، بينها "هآرتس" و"يسرائيل هيوم"، أمس الجمعة، إلى أنّ تبلور هذا الموقف في البيت الأبيض بدأ منذ أشهر عدة، وكان يفترض أن يتم الإعلان عنه رسمياً بعد الانتخابات. وبالتالي، فإنّ إعلان ترامب يخدم عملياً المعركة الانتخابية لنتنياهو، ويتعدى ذلك، بحسب المحلل الإسرائيلي عاموس هرئيل، إلى تبنّي الرسائل السياسية لحزب "الليكود" بقيادة نتنياهو، بما ستكون له تبعات لاحقاً على مجمل المواقف الأميركية من قضايا الصراع الإسرائيلي العربي ككل. ومقابل هذا الإجماع على الهدية الانتخابية لنتنياهو، فإنّ تصريح ترامب ينبئ عملياً باتّباع سياسة أميركية ثابتة تحت إدارته، تتبنّى المواقف الإسرائيلية كلياً في المرحلة الحالية، وهو ما قد يكلف نتنياهو لاحقاً، موقفاً يضطره للقبول بالخطة الأميركية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، المعروفة بـ"صفقة القرن"، والتي يعتزم ترامب طرحها بعد الانتخابات الإسرائيلية المقررة في التاسع من إبريل/ نيسان المقبل.
التحولات في الموقف الإسرائيلي
ولا يمكن عملياً فصل هذا التطور الأميركي عن التحوّل في الموقف الإسرائيلي، الذي كان حتى آخر جولة مفاوضات إسرائيلية - سورية في العام 2010، ينطلق دائماً من مبدأ الانسحاب الإسرائيلي من هضبة الجولان، مقابل سلام مع إسرائيل وتطبيع العلاقات بين الطرفين.
ويعيد هذا إلى الأذهان حقيقة أساسية في النظرة المختلفة، إسرائيلياً، لكل مسألة احتلال الجولان والبقاء فيه وعدم الانسحاب منه. فلغاية اليوم، لم يتعدَ عدد المستوطنين الإسرائيليين في الجولان 26 ألف مستوطن، على الرغم من إقرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي تحت رئاسة مناحيم بيغن عام 1981، قانوناً لتطبيق القانون الإسرائيلي في الجولان، كخطوة أولية نحو الضم الكلي. وعلى مدار الفترة الممتدة منذ العام 1992 ولغاية العام 2015، عمد كل المتنافسين على رئاسة الحكومة الإسرائيلية، بدءاً من إسحاق رابين عام 1992 وحتى نتنياهو نفسه، بما في ذلك في أوج عمليات التفاوض مع سورية، إلى التعهّد بعدم الانسحاب من الجولان بأي حال من الأحوال، فيما كان الرأي السائد إسرائيلياً أن هذه الوعود ليست أكثر من وعود انتخابية.
وبالفعل، وعلى الرغم من هذه الوعود، فقد كانت القناعة الراسخة إسرائيلياً ودولياً، أنه لا يمكن التوصّل لمعاهدة سلام بين سورية وإسرائيل، من دون انسحاب إسرائيلي كامل من الجولان، مع خلاف غير جوهري على ترسيم الحدود بين الطرفين. وقد أثبتت "وديعة رابين" (التي تقول دمشق إنها تتضمن تعهداً إسرائيلياً بالانسحاب إلى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 والتخلي عن هضبة الجولان وإعادتها لسورية) وما تبعها من جولات مفاوضات إسرائيلية - سورية، أن التصريحات الانتخابية هي للاستهلاك، وأنّ الحكومات الإسرائيلية، اليمينية واليسارية، تدرك أن لا بديل عن انسحاب كامل من الجولان مشروط بترتيبات أمنية مشددة، خصوصاً في ظلّ عدم اعتراف الولايات المتحدة بتطبيق القانون الإسرائيلي على الجولان.
هذا الوضع العام تغيّر عملياً عام 2015، عندما بدأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة نتنياهو، بطرح موقف جديد، مدفوعة بضعف نظام بشار الأسد من جهة، بعد أربع سنوات من الثورة السورية وتدهورها إلى حالة حرب أهلية، صار فيها النظام متعلقاً كلياً بالدعم الإيراني والروسي له، ومن جهة أخرى، بنسج الخيوط الأولى للتنسيق العسكري بين إسرائيل وروسيا. موقف نتنياهو قام بداية على التصريح بأن الجولان، مهما كان شكل النظام أو التسوية في سورية، يجب أن يبقى تحت السيادة الإسرائيلية. وبحسب "يسرائيل هيوم"، فإنّ إعلان ترامب أواخر العام الماضي قراره بسحب القوات الأميركية من سورية، كان المحفز الرئيسي لمطالبة نتنياهو بشكل فعلي لترامب بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
اقــرأ أيضاً
ومع أن روسيا أعلنت مواقف رافضة لهذه التصريحات، إلا أنّ حكومة نتنياهو، وبشكل خاص سكرتير الحكومة تسفي هاوزر، بدأ بتطوير خطاب الضم وفرض السيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل كلياً، وليس فقط تطبيق القانون الإسرائيلي في الجولان. وانضم رئيس حزب "يش عتيد" يئير لبيد، إلى الجهد الدبلوماسي في هذا المضمار، وباقي الأحزاب الإسرائيلية الأخرى، من باب المزايدة الحزبية والسياسية الداخلية.
وعلى الرغم من الترحيب الذي أبداه نتنياهو وحكومة الاحتلال بتغريدة ترامب، مساء أول من أمس الخميس، حول الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، إلا أنّ القنصل الإسرائيلي السابق في نيويورك، ألون بنكاس، شكّك في مقالة نشرها في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، بالفائدة المرجوة من مجرد الإعلان. ورأى أنّ الإعلان من شأنه أن يأتي بالضرر لأنه يثير "قضية باتت تصبح مفهومة ضمناً"، ومن شأن إثارتها أن تشعل المعارضة لها، خصوصاً أن كلام ترامب على "تويتر" كان يمكن أن يكون مثلاً اعترافاً باحتلال روسيا لأجزاء من أوكرانيا، أو أي حالة احتلال مشابهة، بحسب بنكاس.
ووفق القنصل الإسرائيلي السابق، فإنّ تصريح ترامب أو تغريدته على "تويتر"، تتناقض مع حقيقة أن الولايات المتحدة وقّعت على قراري مجلس الأمن الدولي 242 في نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، الذي يدعو للانسحاب من الأراضي المحتلة، و497 عام 1981 الذي يعتبر تطبيق القانون الإسرائيلي على الجولان باطلاً.
وفي هذا السياق، أشار مستشار نتنياهو السابق، وأحد أعضاء فريق المفاوضات الإسرائيلية مع سورية، مرتين، البروفيسور عوزي أراد، إلى أنّ "التصريح نفسه مهما كان جميلاً، إلا أنّ السؤال يبقى هو: هل ستمضي إدارة ترامب قدماً نحو قوننة هذا التصريح في قانون يسنّه الكونغرس الأميركي؟"، وهذا في نهاية المطاف مرهون بوضع ترامب الداخلي وبالتوازنات داخل الحلبة السياسية الأميركية.
لكن مع ذلك، فإنه ستكون لإعلان ترامب تداعيات لجهة الترتيبات المستقبلية في سورية، وسط تساؤلات عما إذا كان سيتم التلويح بهذا الموقف لتهديد النظام بقبول شرط نتنياهو في جولة المفاوضات الأخيرة في العام 2010، بأن تقطع سورية أي علاقة لها مع كل من إيران و"حزب الله"؟ وهل سيكون التراجع عن التصريح بسيادة إسرائيل على الجولان، مقابل تعهّد سوري بالدخول في "صفقة القرن" التي يدور الحديث عنها، مع الاتجاه نحو قبول اقتراح إسرائيلي تحدث عن إدخال بند تبادل الأراضي إلى معاهدات واتصالات مستقبلية، بين سورية وإسرائيل، يقوم على أن يعوّض الأردن سورية عن أراضٍ تبقى تحت السيادة الإسرائيلية، فيما تعوّض السعودية الأردن عن هذه الأراضي. علماً أن "هآرتس" ذكرت أن هذا المقترح كان قد رُفض من سورية في جولة المفاوضات الأخيرة بينها وبين إسرائيل في عهد نتنياهو عام 2010، والتي قطعها إلى غير رجعة اندلاع الثورة السورية عام 2011.
يعني هذا أنّ الملف السوري ومصير هضبة الجولان يدخل الآن في المسار نفسه الذي دخلته الضفة الغربية المحتلة، لجهة "الركون إسرائيلياً" إلى عدم وجود شريك سوري في المفاوضات، بما يتيح نسخ تجربة تكريس الاستيطان الإسرائيلي وفرض الحقائق على الأرض، بانتظار تحويل الجولان مستقبلاً إلى "منطقة متنازع عليها"، مرشحة لأن تبقى كذلك مثلها مثل بؤر نزاع حدودية أخرى في العالم، والتلويح بمقترح تبادل أراضٍ مقابل إبقاء مستوطنات إسرائيلية في قلب الجولان. وهو ما يذكّر اليوم بما يسمى بـ"الكتل الاستيطانية" الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة وحول القدس، ومقترحات تعديل حدودي وتعويض أراضٍ مقابل إبقائها في مكانها، بعدما كان المطلب الأولي والشرط الأساسي تفكيك المستوطنات كلياً.
هروب من الاستحقاق الفلسطيني
وفي السياق ذاته، كشف البروفيسور الإسرائيلي إيتمار رابينوفيتش، الرئيس السابق للفريق الإسرائيلي المفاوض مع سورية، في تقرير موسع في صحيفة "هآرتس"، أن إسحاق رابين كان قد اتجه نحو المسار السوري فقط لأنه أراد الهروب من المسار الفلسطيني، ظناً منه أنّ الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، غير صادق في نواياه، وأن "وديعة رابين" كانت موجّهة إلى وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وارن كريستوفر، لتُعرض على السوريين في حال تعهدوا بالتوقيع. والشيء نفسه فعله نتنياهو، عندما اتجه للتفاوض بوساطة تركية عام 2008 هرباً من الضغوط الأميركية في المسار الفلسطيني.
وأبرز رابينوفيتش جانباً آخر في المفاوضات حول جدية نوايا رابين وشمعون بيريس حينها، قائلاً إنّ "بمقدور نتنياهو اليوم أن يعتمد حجج رابين وبيريس وإيهود براك نفسها... لقد تعهدوا بالمفاوضات ولم يتعهدوا بنتائجها". وطرح مثلاً: "شراء تذكرة قطار تصل محطتها الأخيرة إلى السلام، لكن بمقدور الراكبين أن ينزلوا قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة".
وهذا كله كان قد اختصره رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل، إسحاق شامير، في تفسيره لقبوله بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام 1991، بقوله: "نحن ذاهبون للمفاوضات، سنبحث كل شيء لكن لا يعني أن نقبل كل شيء".