تدوير الكتاب المستعمل: محاولات للحفاظ على ملمس الورق

11 أكتوبر 2018
تنتشر بسطات الكتب بكل مكان في مونتريال (العربي الجديد)
+ الخط -
بعيداً عن الإحصاءات والدراسات التي تقول بانحسار الكتاب الورقي أو تراجع الاهتمام العالمي بالكتاب الإلكتروني، لا بدّ من التوقف عند نقطة هامة، وهي أن الإنسان كان يقف دائماً الموقف المتردد نفسه من أي تطور يحدث، ويكسر روتين حياته. رفض الجديد هو تعبير حقيقي عن رغبة عميقة عند غالبية البشر في المحافظة على التوازن، كي يستطيعوا الاستمرار في الحياة، والتأقلم معها، بإيقاعهم الخاص؛ فلكل إنسان إيقاعه الخاص في التأقلم: في الرفض وفي القبول، وهذا ينطبق على الكتاب كما على غيره. ولكن الأكيد، الذي برهنته الحياة: إن البشرية تتقدم دائماً إلى الأمام، حتى لو كان في ذلك "هلاكها".

طريقتي في الكتابة التي لا يحبها البعض، هي الانطلاق من تجربتي الشخصية في الحياة، فتجربتي هي جزء من تجارب البشر، لذلك أميل، عندما أكتب، إلى الارتكاز عليها، بما في ذلك تجربتي مع الكتاب.

لا يمكن لي أن أنسى ذلك المهاجر البولوني الذي تقاطع دربانا في مدرسة الكبار، عندما كان طلاب الصف، ما بين الثلاثين والخمسين من العمر. كنا نعيد تدوير معارفنا وحياتنا، كي نتأقلم مع نمط الحياة الجديدة في كندا، ونصبح صالحين للعيش فيها. كان البولوني، قبل هجرته، عامل طباعة على مدى عشرين عاما، وقف في الصف، وقال: "إن الدم الذي يسري في عروقي هو الحبر، ورائحة الورق أهم عندي من روائح العطور، ملمس الورق المطبوع يثيرني أكثر من ملمس جسد امرأة حسناء". ربما من أجل ذلك كان الرجل أول من هجر الدراسة، التي كانت كلها على الكمبيوترات، فلم يكمل دراسته، لأن الكمبيوتر كان بلا رائحة، وما يتركه ملمس الورق من أحاسيس، لا توفره الشاشة الفضية للكمبيوتر.



مع الثورة الرقمية التي شهدها العالم في هذا القرن، وأواخر القرن الماضي، تحول الكتاب من شكله الورقي إلى شكله الإلكتروني، ولم يعد الجدال محصورا بين من هو مؤيد للكتاب الورقي ورائحة الحبر، ومن هو مع الكتاب الإلكتروني، بل انتشر في جميع الأوساط التي تتعاطى القراءة والكتابة، من الطفل الصغير إلى العجوز الذي يقف على حافة نهر الموت.
حركة البشر تدل على أن الكتاب المستعمل يحسن مواقعه بين الناس، فقد أصبح مناصروه كثرا.

في مونتريال، تجد الكتاب المستعمل في كل مكان؛ مكتبات متخصصة بالكتب المستعملة، بسطات للكتب المستعملة ترافق كل "البازارات" التي تعلن عنها الكنائس. في الصيف، تجد أكثر من مكتبة صغيرة في الشارع، لأخذ الكتاب مجانا أو لوضع الكتاب فيها للآخرين، ويلاحظ ابن المدينة أن عدد مكتبات الكتب الجديدة يتقلص، في العدد وفي المساحة.

من النادر أن تمر في حي لا توجد فيه الآن مكتبة أو أكثر للكتب المستعملة، وأحيانا لا يكون المكان مقتصرا على الكتب فقط، فإلى جانب الكتاب نجد دائما أفلام الفيديو القديمة، عندما كان اقتناء جهاز الفيديو دليل ثراء، الآن أصبح الجهاز بدوره يباع في هذه المحلات. كما نجد الأفلام المسجلة على (دي في دي)، وإلى جانب الأفلام نجد الكثير من كاسيتات وأسطوانات الموسيقى والأغاني القديمة.



الكتاب الجديد
في طريق العودة إلى البيت، مررت من أمام مكتبة، أراها منذ أشهر، كلما ذهبت إلى الصيدلية وعدت منها، دون أن أتوقف أمامها، فعزمت على الدخول للاطلاع على محتويات هذه المكتبة، ما إن دخلت ورأيت حجمها الصغير حتى تذكرت محلات إسطنبول الصغيرة، فكل سنتمر فيها مشغول بطريقة فنية جميلة. لم يكن أحد في المكان غير سيدتين، واحدة منهما ستينية والأخرى أربعينية، تقدمت الكبرى وسألتني عن حاجتي، فقلت لها أريد الكلام فقط، وخاصة في حب الكتب، ضحكت وقالت: قل لي أيها الشاب عن ماذا تبحث بالتحديد؟ قلت: مبروك المكتبة، منذ متى وأنتم في حينا؟ قالت: من عام تقريبا. قلت: أكتب مقالا لجريدة عربية عن تدوير الكتاب، وأريد معرفة ما إذا كان هذا المشروع يغطي نفقاته أم لا؟

قالت: لا أحد يغامر بمشروع إذا لم يكن يثق في نجاجه بنسبة خمسين بالمائة على الأقل. بعد مرور سنة، أستطيع القول إننا نغطي نفقاتنا أنا وشريكتي، ونحاول دائما التفكير في أساليب جديدة، ونشاطات ثقافية لجذب الزبائن.

قلت لها: ألم يؤثر عليكم الكتاب الإكتروني؟

قالت: نحن في حي، غالبية سكانه من كبار السن (العمر الذهبي)، وهؤلاء يفضلون الكتاب الورقي، فملمس الورق عندهم هو جزء من متعة القراءة، ورائحة الحبر، ونفور الحرف، وإمكانية اصطحاب الكتاب إلى السرير، كلها عناصر تخدم مشروعنا وتساعدنا على النمو. قلت لها: كل ذلك إلى حين. قالت: نعم، ونحن أيضا باقون إلى حين، فلا أحد يعيش إلى الأبد.
بالمحصلة، لا يمكن أن يختفي الكتاب الورقي تماما، فنحن حتى الآن نحاول إحياء الكتابة على الحجر والطين، والشعراء يحاولون الكتابة على الماء والهواء، ولكن من المؤكد أن اعتماد البشرية سيزداد كل يوم على الكتاب الرقمي، لأنه يلبي حاجات ومتطلبات الحياة اليومية المعاصرة، حتى لو أدى في بعض الأحيان إلى أمراض نفسية، كما حصل مع صديقنا الشاعر مروان خورشيد عبد القادر، الموجود الآن في السويد، والذي وجه، قبل فترة، نداء فيسبوكيا إلى أصدقائه يطلب منهم تزويده ببعض الكتب الورقية، لأن "الكتاب هو الآن جزء من العلاج الذي نصحني به طبيبي النفسي، وأن أقلل القراءة من المواقع الإلكترونية".

المساهمون