تطوران ميدانيان بقيا الأهم في سورية خلال الأيام القليلة الماضية، أولهما شمال غرب البلاد، بتشكيل مجموعة فصائل مُختلفة الأيديولوجيا "غرفة عمليات عسكرية" مشتركة، تُنسّق من خلالها التصدي لحملة النظام العسكرية المتصاعدة شمال شرق حماة نحو جنوب شرق إدلب، والتطور المفاجئ الآخر، تقدمٌ غير مسبوق لمجموعة فصائل عسكرية، على حساب قوات النظام في غوطة دمشق الشرقية، وحصارها "إدارة المركبات"، وهي أضخم تجمّع ثكنات عسكرية في الغوطة الشرقية.
وعلى الرغم من عدم تبلور مشهدٍ واضح، لآفاق هذين الحدثين حتى الآن، لكون المعارك في الميدان مُستمرة، وقد تتبدل نتائجها الحالية، إلّا أنه لا يُمكن فصلهما عن سياق جملةِ مُعطيات ميدانية وسياسية حاصلة.
فسياسياً، اختتمت الجولة الثامنة من جنيف منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وهي كسابقاتها لم تُفضِ إلى إحداث خرقٍ لإنضاج مسارِ حل سياسي، في ظل اعتراض النظام على بيان "الرياض 2" ورفضه الانخراط في "مفاوضات حقيقية" كما ورد على لسان المبعوث الأممي إلى سورية سيتفان دي ميستورا، والذي ألقى للمرة الأولى رسمياً باللائمة على النظام، قائلاً إن الأخير لم "يسع حقيقة للحوار"، معتبراً ما جرى في "جنيف 8" بمثابة "إضاعة فرصة ذهبية".
كذلك انتهت في الثاني والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول جولة "أستانة 8"، بحضور وفدي المعارضة والنظام، في ظل تأكيد الدول الثلاث الضامنة (روسيا وإيران وتركيا)، في البيان الختامي "عزمها على التفاعل الوثيق بشكل منتظم لدعم التحضير لمؤتمر حوار وطني سوري وعقده في سوتشي بتاريخ 29 و30 يناير/ كانون الثاني 2018، بمشاركة جميع شرائح المجتمع السوري (...). ولتحقيق هذا الهدف، سيعقد الضامنون الثلاثة اجتماعاً تحضيرياً خاصاً في سوتشي قبل المؤتمر، وذلك بتاريخ 19 و20 يناير/ كانون الثاني 2018".
وفي حين أكد البيان ذاته أنّ الدول الضامنة الثلاث "ترى مؤتمر الحوار الوطني السوري القادم مبادرةً تهدف لتقديم زخم لعملية المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة في جنيف"، فإن النظام بدا مُرحّباً بفكرة "سوتشي"، لكن كبريات القوى السياسية والعسكرية المُعارضة رفضت هذا المؤتمر، وأكدت في بياناتٍ رسمية عزمها على مقاطعته، معتبرةً أن هدفه "تعويم النظام وتصفية القضية السورية".
أما ميدانياً، فإن الأشهر الماضية شهدت القضاء على آخر أكبر معاقل "داعش" في سورية، إذ قُضي على التنظيم في معاقله بمحافظات الرقة ودير الزور وريفي حمص وحماة الشرقيين، وبقي له وجود في جيوب متفرقة في البادية السورية، شرقي وغربي نهر الفرات، وفي قرى شرقي حماة، إضافة إلى القرى الخاضعة لـ"جيش خالد" غربي درعا.
وبالنسبة إلى جبهات القتال بين النظام والمليشيات المُساندة له من جهة، والمعارضة المسلحة و"هيئة تحرير الشام" وفصائل عسكرية من جهة ثانية، فقد جُمدت تقريباً بفعل مُخرجات اتفاقيات "أستانة"، التي أقرّت أربع مناطق "خفض تصعيد" في جنوب سورية، والغوطة الشرقية لدمشق، وريف حمص الشمالي، ومحافظة إدلب مع ريفي حماة وحلب الملاصقين لها؛ على أن ذلك لم يفض فعلياً إلى توقّف هجمات النظام في معظم هذه المناطق، مع استمرار حصاره لبعضها.
هذه المُعطيات بجملتها، وإن لم تكن مُريحة تماماً للنظام القلق من تصاعد الهيمنة الروسية المُتحكمة بتحركاته، لكنها في المحصلة رَجّحَتْ كفة قواته في الميدان؛ إن كان في حزام العاصمة الذي نجح النظام في إخلائه تدريجياً من مجموعة قوى المعارضة، وآخرها في قريتي مزرعة بيت جن ومغر المير، مع مواصلة هجماته بالغوطة الشرقية، أو لجهة ما ظهر أنها حملةٌ عسكرية شرسة للنظام، انطلاقاً من محورين بريف حماة الشمالي الشرقي، وثالث جنوب شرق حلب، نحو جنوب وشرق إدلب، أي مجموعة المناطق الواقعة شرق سكة قطار حلب - دمشق.
ففي الغوطة، لم يوقف النظام شنّ هجماته على الرغم من توقيع اتفاقين بين ممثلين عن موسكو مع "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" لـ"خفض التصعيد" فيها، إن كان على محور جوبر - زملكا، أو شرق دوما في جبهات النشابية - بيت نايم - البلالية. لكنّ التطور الأخير على جبهات حرستا يعتبر لافتاً وغير مسبوق، إذ إن فصائل مقاتلة للنظام هناك، حاولت مرات عدة، في أوج قوتها، بسط سيطرتها على مجمع ثكنات النظام العسكرية المعروف بـ"إدارة المركبات" من دون أن تتمكّن من ذلك، لكن المعارك الدائرة منذ أسابيع في المنطقة، التي تصاعدت يومي السبت والأحد الفائتين، مكّنتْ الفصائل المُهاجمة من إطباق حصار "إدارة المركبات"، عبر سيطرتها على حي العجمي وحي الحدائق ونقاط أخرى، الأمر الذي سمح لها بوصل مناطق سيطرتها في حرستا مع مناطق سيطرتها في بلدة عربين، ما يعني عملياً قطع الطريق الذي يصل "إدارة المركبات" مع مبنى الاستخبارات الجوية في حرستا، وبقية نقاط سيطرة النظام هناك.
ومنذ أيام، تنعى صفحات موالية للنظام على الإنترنت مزيداً من ضباط قتلوا في معركة "إدارة المركبات"، ما يؤشر فعلياً على ضراوة المعارك الدائرة هناك، وحجم خسائر النظام في تلك المعارك. وعلى الرغم من أن المصادر ذاتها تتحدّث عن إمداداتٍ عسكرية ضخمة وصلت للغوطة، لاسترجاع ما تم فقدانه، إلا أنّ الصورة الميدانية حتى مساء الثلاثاء بقيت على حالها: تقدمٌ كبير لفصائل المعارضة، التي وجهت ضربات قوية لقوات النظام، أقرت بها مصادر روسية منها "قاعدة حميميم"، التي وجهت انتقادات ضمنية لـ"الحرس الجمهوري"، وطالبته عبر معرفاتها الرسمية على الإنترنت، بـ"إبداء مزيد من الجدية في التصدي للهجمات في منطقة حرستا"، وهو مؤشرٌ آخر على نتائج المعارك الضارية الدائرة حالياً.
ويتزامن هذا التطور في الغوطة الشرقية، قرب العاصمة دمشق، مع استمرار معارك الكرّ والفرّ بريف حماة الشمالي الشرقي وجنوب إدلب، التي أحرز النظام فيها خلال الأسبوع الأخير تقدماً، على حساب مجموعة الفصائل التي تحاول صدّ الهجوم، التي شكلت "غرفة عمليات عسكرية" مشتركة لتنسيق العمليات العسكرية هناك.
وتضم هذه الغرفة العسكرية كبريات الفصائل العسكرية في محافظة إدلب، وهي "هيئة تحرير الشام"، و"حركة أحرار الشام"، و"جيش الأحرار"، و"الحزب الإسلامي التركستاني" و"حركة نور الدين زنكي"، مع فصائل تتبع للجيش الحر هي "جيش إدلب الحر"، و"جيش العزة" و"جيش النصر".
وفي حين تُشير مصادر عسكرية شمال غرب سورية لـ"العربي الجديد" إلى أن الاجتماعات والترتيبات النهائية لعمل هذه الغرفة ما تزال "قيد النقاش"، فإن تشكيل كل هذه الفصائل لـ"غرفة عمليات مشتركة" يُعتبر الأول من نوعه منذ ما بعد تفكك "جيش الفتح" الذي ضمّ معظم الفصائل المذكورة أعلاه، وكان قد أعلن عنه في مارس/ آذار 2015، وحقّق بعد ذلك تقدمات ميدانية كبيرة، أبرزها سيطرته على مركز محافظة إدلب ومعسكرات القرميد والمسطومة ومدينة جسر الشغور ثمّ أريحا.