تحوّلات تونس.. كسر الاستثناء العربي

31 أكتوبر 2014

تونسيون يحتفلون بنجاح العملية الانتخابية في بلادهم (27 أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

يمكن القول إن مهمة الانتخابات التونسية التي أفرزت نتيجة مغايرة لتوقعات حركة النهضة بدت كما لو أنها تضعنا أمام إعادة تعريف جديدة لنهايات الربيع العربي. فهنا، في هذه الانتخابات، لم تؤد النتيجة إلى نهاية المهمة، مهمة الثورة، وإن أقصت اللاعب الأكبر في حيازة السلطة السياسية بعد الثورة في تونس، كما في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي، ونعني حركات الإسلام السياسي.  والحال أن ما تكشفت عنه الانتخابات التونسية سيحيلنا إلى حقيقةٍ، ربما دلت على وجاهة الرأي إن التصفية الجارية لحركات الإسلام السياسي على خلفية أدائها الركيك، بعد استلامها السلطة، لاسيما في مصر، والذي صادف هوى إرادات أخرى، إقليمية وعالمية، استثمرت تلك الأخطاء القاتلة بنيات وخطط مبيّتة، ووجدت فيها مصادفة تاريخية لقلب الأوضاع، واستعادة أوضاع جديدة/ قديمة مريحة للطرفين الإقليمي والدولي، لأكثر من سبب.

هذه المرة، في تونس، جرت التحولات في إطار صيرورة، وليس في إطار قطيعة، كما جرى في مصر مثلاً. وهي صيرورة ستقطع مع ذلك اليأس الذي أصاب كثيرين من نهايات الربيع العربي، مستعيداً الحلقة الجهنمية القائلة إن الحريات في هذا الجزء من العالم، المسمى عربياً، تنتج، بالضرورة، حروباً أهلية (كان النموذج اللبناني عمدة تلك المقولة)، وإن الديكتاتورية حاضنة الاستقرار.

على أن هناك نمطاً إيجابياً ميز التجربة التونسية، بخلاف تجارب الربيع العربي الأخرى، تؤشر عليه معطيات متصلة بهوية الانتقال الديمقراطي، منها استثناء جيد في التعليم، وحضور وازن لطبقة وسطى، أصبح في مكنتها منع تداعيات كثيرة للهوامش الفوضوية للثورات، عززتها هوية وطنية متماسكة. إلى جانب وجود حركات وقيادات حزبية متفاهمة، لها القدرة على إدراك الحد الأدنى من الانتظام المدني، والحاجة إلى التوافق على المكتسبات الدستورية والاقتصادية والتعليمية للمجتمع التونسي، وغير ذلك من مؤهلات الحفاظ على المجال العام، على الرغم من اهتزازات طفيفة شابت التجربة لجهة الوضع الأمني، وحوادث إرهاب راح ضحيتها ناشطون سياسيون من قوى اليسار.

يبدو المشهد التونسي، على الأقل حتى الآن، بعد نتائج هذه الانتخابات، ومن خلال تصريحات بعض قادة حزب نداء تونس عن ضرورة التوافق مع قوى سياسية ذات مرجعية علمانية مشتركة لإدارة الدولة، كما لو أنه يبشر بأن الحل يكمن في الابتعاد عن التحالف مع حركة النهضة؛ بما يوهم أن ذلك كاف بذاته للشروع في تأسيس تجربة مضمونة النجاح لجمهورية تونسية جديدة ومنفتحة على الحداثة والعالم. بيد أن هذا الزعم سرعان ما سيتكشف، مع الأيام والشهور المقبلة، عن تعثراتٍ، هي، بطبيعة الحال، من عوارض الانتقال الديمقراطي الذي تخطو فيه تونس خطواتها المتحسسة، بتحالف مع حركة النهضة أو بدونها. 

في الوقت نفسه، ربما كانت النتيجة التي حصلت عليها حركة النهضة في الانتخابات سبباً وحافزاً لإعادة وترتيب أوراقها، ليس فقط لمواصلة التجريب السياسي من خلال المعارضة، وإنما، أيضاً، للتأمل والمراجعات النظرية العميقة في الانسداد الذي أفضت إليه، والذي يمكن أن تفضي إليه الاجتهادات الناقصة لتجارب الإسلام السياسي في المنطقة العربية برمتها. ومما يساعد على ذلك أن في داخل حركة النهضة أصوات تعزز هذا الاتجاه (الشيخ عبد الفتاح مورو نموذجاً).

حققت تونس جولة أخرى في الاتجاه الصحيح، نحو الخروج من المسار الذي أخفقت فيه تجارب أخرى للربيع العربي، لكنها جولة على الطريق في مسار متعرج ومفعم بشروط التحدي والاستجابة، ليس فقط للإبقاء على أملٍ يمكن أن يلهم تجارب جديدة في المنطقة العربية، كما ألهمها أول مرة، وإنما، أيضاً، لكسر ذلك الاستثناء العربي الذي أدرجه بعضهم في الغرب، عبر مقولات ثقافوية، ضمن حدود أزلية للانسداد والاستبداد في المنطقة العربية.

ففي بداية ثورات الربيع العربي، قبل ثلاثة أعوام، انحسر الظن بذلك الاستثناء الذي وُصم به العرب طويلاً في عجزهم عن الاندماج في العالم الحديث، لكنه عاد، مرة أخرى، بعد انهيار تجارب الربيع العربي في مصر وليبيا وسورية واليمن. وها هي تونس اليوم، مرة أخرى، تخطو على طريقٍ مغاير لذلك الانهيار الذي منيت به ثورات بلدان الربيع العربي، ما يعزز الاعتقاد بصحة مقولة المفكر الفرنسي، ريجيس دوبرييه: ليست المهمة من تصنع حامل المهمة.