تحدّي الوجود، استجابة الثقافة

02 نوفمبر 2015
لوحة لكمال بُلّاطه من معرض "وكان النور"، لندن، 2015
+ الخط -
في الحوار الشيّق المنشور في العدد الحالي من "ملحق الثقافة" مع الفنان كمال بُلّاطه، ثمة ما يعيد الاعتبار إلى الأجيال التي سبقته من الفنانين التشكيليين العرب، ولا سيما الفلسطينيين الذين عاشوا وأبدعوا في فلسطين قبل أن يحطّ فيها غزو كولونيالي غريب فيقلب كيانها وكينونتها رأسًا على عقب.

ومن هؤلاء الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، يخصّ بُلّاطه بالذكر على وجه التحديد كلًا من خليل الحلبي، الفنان المقدسي الذي ترك وراءه لوحات كثيرة استفاد في رسمها من منهج الرسم الأيقوني، والأديب جبرا إبراهيم جبرا الذي كان من أبرز علامات الرواية الفلسطينية المعاصرة على مستوى تأسيسها فنيًا وله مساهمات في الفن التشكيلي وكتابة السيرة الذاتية التي تستحضر المكان وكل ما كان يعجّ به من حياة زاخرة.

اقرأ أيضًا: مرآة واحدة، رؤى متعددة

وهو بذلك يكمّـل تقليدًا اختار السير فيه منذ سنوات طويلة وتوّجـه من خلال كتابه "استحضار المكان - دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) سنة 2000، وورد في تظهيره آنذاك أنه يجلو قرنًا كاملاً من تاريخ الحركة التشكيلية والثقافية العربية في فلسطين.

ومما قيل في تقريظه آنذاك أنه يتميّز، أكثر شيء، بكونه خلاصة عمل ميداني نهض به مؤلفه لمدة تتجاوز ثلاثة عقود من الزمن سخّر فيها ما امتلك من موهبة وتجربة ومعرفة دقيقة بشؤون الفن والأوضاع الثقافية والحياتية والسياسية والنضالية الفلسطينية لإنتاج عمل إبداعي في مجالي النص والصورة ولتقديم وثيقة حيّة تشكل شهادة صادقة عن بدايات النهضة الثقافية والفنية العربية في فلسطين، وانهيارها المأساوي نتيجة العدوان الصهيوني والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

اقرأ أيضًا: كتابة المكان

تضمن هذا الكتاب ما يزيد على ثلاثمئة صورة لأعمال فنية لأكثر من مئة فنان فلسطيني، وتناول بالتحليل النقدي الإبداعات الفنية لنحو خمسين فنانًا كاشفًا التوجهات الفنية والمذاهب التشكيلية التي حدّدت ملامح الفن التشكيلي الفلسطيني في هذا العصر عبر قرن ونصف قرن من الزمن والخصائص التي تجعل منه فنًا ذا سمات وطنية بامتياز برغم ابتعاد إبداعاته في الزمان وتناثرها في المكان، مؤكدًا أنه بامتلاكه هذه الشخصية الفنية ثبّت الفن التشكيلي الفلسطيني الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني بالرغم من الشتات ومحاولات الطمس والإبادة التي يمارسها ضده العدو الصهيوني المحتل.

ونقرأ بين سطور الحوار أيضًا تلميحًا ذكيًّا إلى أن المُبدع لا يُعدّ ابن بيئته المكانية فحسب بل إنه أيضًا مدين لما أنتجته الأجيال السابقة من المبدعين على مرّ العصور.

ولئن كان هذا التوصيف ينطبق على الثقافة بالمطلق، فإنه ينطبق أكثر فأكثر على الثقافة الفلسطينية التي كانت مهدّدة بالانقطاع تحت وطأة ما تعرّضت له فلسطين وما تزال.

لتوضيح ما أقصد، أشير إلى أن أول تحدٍّ واجهته هذه الثقافة وخصوصًا لدى الجزء الباقي من الشعب الفلسطيني داخل مناطق 1948، تمثّـل في مقاومة هذا التهديد. وقد كان هذا التهديد ناجمًا عن أمرين: أولاً، أن أكثر من ثلاثة أرباع الذين بقوا (لم يطردوا) كانوا من سكان الريف. فسكان المدن تمّ تهجير الغالبية الساحقة منهم عن فلسطين، إبّان النكبة أو بعدها بقليل.

وهذا الواقع أحدث اهتزازاً صاخباً وخلخلة كبيرة في جوهر المجتمع الفلسطيني الباقي، غير المطرود، الذي استفاق على واقع مغاير، جملةً وتفصيلًا. ومعروف أن المدن الفلسطينية قبل النكبة لم تكن مركز القيادة السياسية فقط لكن أيضاً، كما في معظم المجتمعات، المركز الأساسي للقيادة الفكرية والثقافية. وبالتالي بقي هذا المجتمع الفلسطيني ريفياً في معظمه.

ثانيًا، في الوقت عينه أُخضع هذا المجتمع لحصار سياسي- اجتماعي- ثقافي من طرف الحركة الصهيونية. وانتصب سور من القطيعة الثقافية القسرية بينه وبين الأدب العربي في حواضره المتعدّدة. وحاول الحكم العسكري الذي فُرض عليه حتى سنة 1966 أن "يتلبّس" إلى حدّ كبير نوع الإنتاج الأدبي المطلوب ذيوعه وشيوعه.

يمكن القول الآن إن الاستجابة لهذا التحدّي كانت في المستوى المنشود بفضل الرعيل الأول من المثقفين في أوساط هذا الجزء. ولعلّ أهم ما يُسجّل لهذا الرعيل دوره في توكيد استمرارية الثقافة الفلسطينية. وهو ما انعكس أساسًا في منحيين متصلين، مبنىً ومعنىً: الأول، منحى إبراز الإنتاج الأدبي والفكري لأعلام الثقافة الفلسطينية قبيل نكبة 1948. والثاني، منحى التوكيد، في معرض "التنظير" لخلفيات النتاج الأدبي الفلسطيني في الداخل، على كون هذا النتاج بعد نكبة 1948 هو استمرار طبيعي للنتاج الأدبي قبل تلك السنة.

في هذا الصدد تحديدًا لا بُدّ من استعادة مقولة محمود درويش في أوائل ستينيات القرن الفائت: "يخطئ من يعتقد بأن شعرنا وأدبنا هنا قد نشأ من لا شيء... فنحن الجيل الذي ترسّم خطوات من جاء قبله... وليس شعرنا إلا امتدادًا لشعر أبي سلمى وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وغيرهم".
دلالات
المساهمون