تحالفات زواريب في الانتخابات النيابية اللبنانية المُقبلة

27 يوليو 2017
من اللقاء التشاوري في بعبدا الشهر الماضي (حسين بيضون)
+ الخط -

على الرغم من حدّة الخلاف السياسي الذي قد تفرزه معارك جرود عرسال في الوسط اللبناني، إلا أن الوضع لا يزال تحت السيطرة. يضحك بعض نواب الأحزاب اللبنانية لدى سؤالهم عن التحضيرات للانتخابات النيابية المُقرر إجراؤها في مايو/أيار 2018، "لأن الموعد لا يزال بعيداً". لكن الورش الحزبية المُتلاحقة التي تعقدها قيادات الأحزاب لكوادرها بهدف شرح القانون الانتخابي الجديد الذي تم إقراره في مجلس النواب بعد 8 سنوات من النقاش السياسي العقيم، توحي بأن الموعد أقرب بكثير مما يشير إليه التاريخ المحدد. وينص القانون الجديد على تقسيم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية واعتماد النظام النسبي مع صوت تفضيلي طائفي، وتمديد ولاية المجلس الحالي لمرة ثالثة لحين إجراء الانتخابات. كما يتم إعداد الماكينات الانتخابية للأحزاب بما يتلاءم مع التعديلات الإضافية التي ستدخل حيّز التنفيذ شكلاً ومضموناً في العملية الانتخابية، كاعتماد الأوراق المطبوعة سلفاً، واستخدام البطاقات الممغنطة لاقتراع الناخبين، وغيرها من التعديلات.

وإن شكّل التفاوت في حجم الدوائر الانتخابية وتوزيعها الجغرافي والطائفي مدخلاً لمحاولة الأحزاب حصر الخسائر التي ستصيب كتلها النيابية نتيجة اعتماد النظام النسبي، فإن خارطة التحالفات السياسية التي ستنتهجها الأحزاب لضمان فوزها مُجتمعة بمقاعد البرلمان لا تقل تعقيداً عن شكل الدوائر أو توزيعها. ومن عجائب القانون الجديد فصل دائرة صيدا - جزين جغرافياً، وضمّ بعض البلدات شرقي منطقة صيدا إلى دائرة صور - الزهراني. وفي مفارقة لافتة ينص القانون على انتخاب 11 نائباً في دائرة المتن التي تبلغ مساحتها 265 كيلومتراً مربعاً، و10 نواب في دائرة بعلبك - الهرمل التي تتجاوز مساحتها 3 آلاف كيلومتر مربع.

"تحالفات الضرورة"

بعكس مراحل سابقة، تنتهج مُختلف القوى السياسية خطاباً سلساً في التعاطي حتى مع أكثر الملفات خلافية كالشأن السوري وانعكاسه على لبنان، أو الملفات السياسية التي يتخذ الخلاف فيها طابعاً تقنياً كخطة الكهرباء التي يتبناها "التيار الوطني الحر" وحيداً في مواجهة مُختلف القوى السياسية المشاركة في الحكومة. وهو نهج سيستمر حتى موعد الانتخابات، وحتى تستوعب القواعد الشعبية للأحزاب اللبنانية بعض التحالفات المناطقية التي قد تبدو نافرة، كتحالف "التيار الوطني الحر" مع ألد خصومه السياسيين "حركة أمل" في دائرة بعبدا، شرقي بيروت مثلاً، أو تجيير "حزب الله" أصواته في دائرة بيروت الثانية أو في دائرة صيدا - جزين أو في دائرة زحلة لصالح مرشحي "تيار المستقبل" أو حلفائه، أو تحالف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط، مع "الوطني الحر" و"القوات" لضمان بقائه على رأس كتلة وازنة في دائرة الشوف - عاليه.



ورغم اعتماد القوى السياسية لخطاب طوباوي تدور مصطلحاته في دائرة "الانفتاح والتعاون"، إلا أن المصلحة السياسية هي التي ستُحدد هذه التحالفات وشكلها، فليس بالضرورة أن يتم إعلان التفاهمات بشكل علني وإنما الاكتفاء بتجيير الأصوات أو حتى عدم التصويت لخصم الطرف الآخر فقط. وقد شكلت الانتخابات البلدية في العاصمة بيروت نموذجاً لتحالف معظم الأحزاب اللبنانية (تيار المستقبل، حزب الله، حركة أمل، التيار الوطني الحر، القوات اللبنانية، حزب الكتائب، الجماعة الإسلامية، جمعية المشاريع) في مواجهة مرشحين مُستقلين جمعتهم لائحة "بيروت مدينتي".

تخضع كل من الدوائر المذكورة أعلاه لمجموعة اعتبارات محلية قد تُحتم التحالفات السلطوية، كحاجة الحريري لتعويض خسارته العددية التي ستحرمه من كتلته البرلمانية الحالية وعددها 38 نائباً. ومع انتهاج مبدأ "السلة الكاملة" في صياغة التفاهمات السياسية قد يُشكل حجز الحريري لموقع رئاسة الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات، مقابلاً لخسارة عدد من المقاعد النيابية.



وتعود جذور أسباب تحالف الحريري المُحتمل مع "حزب الله" في بعض الدوائر إلى سلسلة التراكمات التي أثرت سلباً على شعبية الحريري، منذ مغادرته لبنان بعد استقالة "حزب الله" وحلفائه من الحكومة عام 2011، وحتى اليوم. وزاد الأمر تعقيداً معاناة الحريري من أزمة مالية حرمت آلاف الموظفين في مؤسساته العقارية والإعلامية وغيرها من مُستحقاتهم المالية.

ولا يزال الحريري رغم عودته إلى لبنان وعلى رأس السلطة التنفيذية، يعاني من تبعات مرحلة ابتعاده "القسري" كما سماها مستشاروه، وقد أظهرت الانتخابات البلدية أن حالة الامتعاض الشعبي والمالي من الحريري لا تزال سارية المفعول، وأن الجمهور العريض الذي التف خلف آل الحريري بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بات مُنفتحاً على خيارات أُخرى.

كما سيُعاني الحريري انتخابياً بسبب تبعات الانفتاح الذي انتهجته السعودية تجاه شخصيات سياسية سُنية أُخرى، كالرئيس نجيب ميقاتي ورئيس "حزب الاتحاد" الوزير السابق عبد الرحيم مراد. تعززت شعبية الرجلين المناطقية في البقاع والشمال، وبرز معهما الحراك السياسي الذي قاده الوزير السابق أشرف ريفي، الذي حاول تسويق نفسه كالوريث السياسي للحريري الأب، أو لـ"الحريرية الأصلية" الخالية من شوائب مهادنة حزب الله والنظام السوري والقوى التابعة لدمشق في بيروت. وتمكن ريفي من الفوز إلى جانب المُجتمع المدني في الانتخابات البلدية في طرابلس العام الماضي. وهي نتيجة ليست مضمونة التكرار بعد الاعتراضات الواسعة على أداء المجلس البلدي الذي لم يُلب طموحات الشارع الطرابلسي إنمائياً. وإن روّج الحريري لحواره الثنائي مع "حزب الله" خلال سنوات الثورة السورية على أنه نقطة اللقاء الوحيدة بين حزب سني وحزب شيعي في كامل المنطقة العربية، فإن هذا الخيار وما تبعه من تنازلات قدمها الحريري لحزب الله كانتخاب مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية (ميشال عون) ومشاركته في حكومة رغم استمرار مشاركة الحزب في القتال في سورية، قد راكمت من الخسائر الجماهيرية للتيار الأزرق (المستقبل).



جنبلاط مستاء وبري مُستعد

سجّل رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط، جُملة اعتراضات على مسار التسوية السياسية في لبنان منذ تبني الرئيس الحريري ترشيح الرئيس ميشال عون للرئاسة، مروراً بإقرار المراسيم النفطية، ووصولاً إلى ملف الانتخابات. لكن اعتراضات جنبلاط المُستندة إلى "خوف درزي" من تهميش دور الزعامة الجنبلاطية في الحياة السياسية، لم تتجاوز الاعتراض الأدبي والقبول بالمسار الذي حددته قوى السلطة (حزب الله، تيار المستقبل، حركة أمل، التيار الوطني الحر، القوات اللبنانية) خارج المؤسسات الدستورية. ويأمل جنبلاط أن تمنحه خيارات التحالف مع القوى المسيحية في جبل لبنان، هامش مناورة من خلال الإبقاء على أكبر عدد من أعضاء كتلته النيابية في دائرة الشوف - عاليه، وتالياً استمرار دوره السياسي الفعال بين مُختلف القوى. وقد أدت الاعتراضات الجنبلاطية إلى وقوع خلاف سياسي مع الرئيس الحريري تخلله تبادل التصريحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ويبدو أن الواقعية السياسية ستجمع النائب جنبلاط برئيس مجلس النواب نبيه بري، مُجدداً. يلتقي الطرفان عادة في المراحل السياسية الحساسة ويُشكلان معاً محوراً من محاور التسويات. وهذه المرة سيكون على بري اعتماد النهج الجنبلاطي في المناورة لحماية المقعد المسيحي الوحيد في كتلة "التنمية والتحرير" التي يرأسها بري وتتألف حالياً من 13 نائباً. وذلك بعد تعديل توزيع الدوائر الانتخابية جنوبي لبنان من "دائرة قرى صيدا - الزهراني" و"دائرة صور" و"دائرة جزين" في انتخابات عام 2009، إلى دائرتي "جزين - صيدا" و"صور - الزهراني" في قانون الانتخابات الجديد. وهو واقع قد يدفع بري إلى بحث التحالف مع "التيار الوطني الحر" الذي يُسجل وجوداً في الدائرتين المُستحدثتين، علماً أن التيار حصد مقاعد دائرة جزين الثلاثة في انتخابات عام 2009، وعاد مرشحه أمل أبو زيد، للفوز في الانتخابات الفرعية التي أُجريت عام 2016 بعد شغور أحد المقاعد الثلاثة بوفاة النائب ميشال الحلو. وتُشكل دائرة "صيدا - جزين" (5 نواب: 2 مسلمين و3 مسيحيين) مثالاً على تقاطع المصالح المُتداخلة بين مُختلف الأفرقاء، إذ يحتاج "المستقبل" للأصوات الشيعية في الدائرة لفوز مرشحيه، كما يحتاج "التيار الوطني الحر" لأصوات المُسلمين سُنة وشيعة (يمثلهم حزب الله وحركة أمل وتيار المستقبل وآخرون) لدعم لوائحه، بينما يحصر الصوت التفضيلي الطائفي المُعتمد في القانون الجديد تصويت الناخبين ضمن الأقضية لصالح المرشح من نفس الانتماء الطائفي. وتُشكل إعادة إنتاج برلمان جديد مُشابه للبرلمان الحالي من حيث توزيع المقاعد على أحزاب السلطة ضرباً لمفهوم النظام النسبي ولطموحات اللبنانيين في إعادة إنتاج طبقة حاكمة جديدة بعيداً عن الديمقراطية التوافقية التي تعطلت المؤسسات الدستورية بسببها لمرات عديدة. وهو ما يؤثر على انتظام الحياة العامة وعلى كافة الخدمات التي يُفترض بالدولة تقديمها للمواطنين كالكهرباء والماء والأمن وغيرها.