07 نوفمبر 2024
تجليّات السعودية الجديدة
تنتشر على حسابات بعض السعوديين المؤيدين للنظام في بلدهم عباراتٌ من قبيل "الوطن أهم" و"السعودية أولاً"، وهي تعني أن مصلحة البلاد، كما يراها الملك وولي عهده بالطبع، هي الأهم، بغض النظر عن أي شيء آخر. لكن اللافت أن تلك الشعارات وجدت حيزاً من التطبيق في الواقع، وكانت بالفعل على حساب مصلحة الآلاف من المواطنين، وعلى حساب ثوابت عديدة طالما مثلت رصيداً حقيقياً للمملكة، بل وحتى على حساب معانٍ دينيةٍ في الإسلام الذي تدّعي السعودية تمثيله. وقد مثلت الأزمة السعودية الكندية أخيراً إحدى تجليات ذلك التعريف المشوّه لما يُسمَّى "الوطن"، فكتب طالب سعودي على "تويتر" إنه خسر دراسته وممتلكاته، واستدرك إن ذلك كله لا يهم لأن "الوطن أهم من كل شيء"، فالمسكين لا يدرك أن "الوطن" لم يتخذ أي قرار بشأن التصعيد مع كندا إلى هذه الدرجة، بل هو قرار شخص واحد فقط قرّر أن يدمر مستقبل آلاف من الطلاب (حتى الذين يدرسون على نفقتهم)، ويهدّد صحة آلاف من المرضى، لإرضاء رغبته في اتخاذ إجراءات انتقامية من كندا، لمجرد إصدار حكومتها بياناً تنتقد فيه اعتقال الناشطات المدافعات عن حقوق الإنسان.
أما المفارقة الأكبر فجاءت في تصريحات وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، إنّ الأزمة السعودية الكندية لن تؤثر على علاقات شركة أرامكو السعودية مع عملائها في كندا، وكأن البترول أهم من البشر، فيا ليت المواطن المسكين الذي قال إن "الوطن أهم" يفكّر قليلاً بعد ذلك التصريح ليعرف كيف يفكّر "الوطن" فيه، وفي أمثاله من المواطنين.
أما التجلي الآخر لذلك التوجه السعودي الجديد، فبرز في تعامل بعضهم مع القضية الفلسطينية، إذ تسابقوا للهجوم على المقاومة والحط من شأنها، واتهام الشعب الفلسطيني بالتنازل عن
أرضه، في تكرار بائس للاتهامات المعتادة منذ عشرات السنوات من المطبّعين مع الاحتلال الإسرائيلي، وكأنّ هؤلاء السعوديين يعيدون تشغيل شريط الاتهامات منذ البداية، بعدما وصلوا إلى حفلة التطبيع متأخرين. وكتب أحد هؤلاء رداً على فلسطيني سأله عن السبب الذي جعله لا يكتب أي تغريدة داعمة للشعب الفلسطيني قائلاً "خسارة فيكم تغريدة"، وأتبعها بوسم "السعودية أولاً"، وكأن هذا الشعار أصبح رمزاً للتخلي عن كل الثوابت والقضايا الكبرى والمصيرية.
خلال موسم الحج أخيراً، ظهر التناقض الصارخ لمحاولات تطويع الشعائر الدينية لخدمة الوطنية السعودية الجديدة، فظهرت أعاجيب عديدة غير مسبوقة، والتي بدأت إرهاصاتها قبل ذلك بأعوام، عندما صرح الأمير خالد الفيصل: لا يوجد في العالم من يفوقنا خبرةً في تنظيم الحج.. وكأن السعودية فازت بمسابقة بين الدول لتنظيم الحج مثلاً، وليس بسبب حقائق الجغرافيا. وتواصلت تلك الرؤية العجيبة هذا العام، عندما نشرت حساباتٌ سعوديةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي منشوراتٍ تتحدث عن أن العشرة المبشّرين بالجنة جميعهم سعوديون! (وماذا عن أبي جهل وأبي لهب وباقي كفار قريش؟) وهو ما أثار سخريةً واسعةً على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن وقتها لم تكن هناك السعودية ولا قطر ولا الكويت، ولا أي من تلك الدول الحديثة موجودة أصلاً.
يذكّر هذا العبث بالتاريخ والدين بتصريح المغني محمد عبده قبل أشهر، عندما قال إن سيدنا محمّد "سعودي"، وكذلك تصريح علي جمعة مفتي مصر السابق الذي قال إن أصل تسمية دولة قطر يعود إلى إمام الخوارج قطري بن الفجاءة، وإن المهلب بن صفرة الذي قاتل الخوارج كان من الإمارات! فهي كلها تنويعاتٌ على تخاريف تحاول إلباس المظاهر الحداثية الجديدة ثوب
الدين. وهو ثوبٌ ظهر جلياً عندما ظهرت الدعوات المتصاعدة إلى تدويل الحج بسبب تعرّضه للتسييس على يد السلطات السعودية التي تمنع من تشاء من الحج والعمرة، وتبتزّ دولاً أخرى بوقف تأشيرات الحج لمواطنيها في مقابل الحصول على مواقف سياسية منها، فظهر حينها دعاة سعوديون يتحرّكون بالريموت كونترول، ليدافعوا عما سمّوه "حق المملكة في تنظيم الحج"، واصفين إشراف السعودية على مناسك الحج بأنه "حق شرعي"، ولا نعلم أين ذُكر هذا الحق "الشرعي" المزعوم، وفي أي آية من القرآن الكريم، أو في أي حديث من الأحاديث النبوية. ولكن يزول العجب عندما يتحدّث "الداعية" عائض القرني عمّا سمّاها "السعودية العظمى" التي "تنبعث من جديد" (وكأنها كانت موجودة قبل ذلك أصلاً)، فالمفترض أن داعية الدين بطبعه لا يميل إلى النزعات الوطنية المتخيلة، ويميل دائماً إلى الحديث عن المسلمين وأمة الإسلام بشكل عام، أما أن يحصر دولة الإسلام في كيانٍ واحدٍ، ويتحدث بمفاهيم الوطنية والنزعات الشوفينية المتعصّبة، فأمرٌ انفردت به السعودية في ثوبها الجديد، والتي تصرّ على ابتلاع الجميع تحتها والإذعان الكامل من الجميع.
أما المفارقة الأكبر فجاءت في تصريحات وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، إنّ الأزمة السعودية الكندية لن تؤثر على علاقات شركة أرامكو السعودية مع عملائها في كندا، وكأن البترول أهم من البشر، فيا ليت المواطن المسكين الذي قال إن "الوطن أهم" يفكّر قليلاً بعد ذلك التصريح ليعرف كيف يفكّر "الوطن" فيه، وفي أمثاله من المواطنين.
أما التجلي الآخر لذلك التوجه السعودي الجديد، فبرز في تعامل بعضهم مع القضية الفلسطينية، إذ تسابقوا للهجوم على المقاومة والحط من شأنها، واتهام الشعب الفلسطيني بالتنازل عن
خلال موسم الحج أخيراً، ظهر التناقض الصارخ لمحاولات تطويع الشعائر الدينية لخدمة الوطنية السعودية الجديدة، فظهرت أعاجيب عديدة غير مسبوقة، والتي بدأت إرهاصاتها قبل ذلك بأعوام، عندما صرح الأمير خالد الفيصل: لا يوجد في العالم من يفوقنا خبرةً في تنظيم الحج.. وكأن السعودية فازت بمسابقة بين الدول لتنظيم الحج مثلاً، وليس بسبب حقائق الجغرافيا. وتواصلت تلك الرؤية العجيبة هذا العام، عندما نشرت حساباتٌ سعوديةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي منشوراتٍ تتحدث عن أن العشرة المبشّرين بالجنة جميعهم سعوديون! (وماذا عن أبي جهل وأبي لهب وباقي كفار قريش؟) وهو ما أثار سخريةً واسعةً على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن وقتها لم تكن هناك السعودية ولا قطر ولا الكويت، ولا أي من تلك الدول الحديثة موجودة أصلاً.
يذكّر هذا العبث بالتاريخ والدين بتصريح المغني محمد عبده قبل أشهر، عندما قال إن سيدنا محمّد "سعودي"، وكذلك تصريح علي جمعة مفتي مصر السابق الذي قال إن أصل تسمية دولة قطر يعود إلى إمام الخوارج قطري بن الفجاءة، وإن المهلب بن صفرة الذي قاتل الخوارج كان من الإمارات! فهي كلها تنويعاتٌ على تخاريف تحاول إلباس المظاهر الحداثية الجديدة ثوب