تجربة الحكم عند العرب والأتراك.. تماثل الظروف واختلاف النتائج
عندما انفرط عقد الدولة العثمانية، مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، ظهرت على أنقاضها دول وكيانات رسمت حدودها إرادة المنتصرين في الحرب، في اتفاقات ثنائية، مثل اتفاقية سايكس-بيكو، أو متعددة الأطراف، مثل معاهدة سيفر. ومن بين الكيانات التي نشأت، ثلاثة رئيسة ورثت الدولة العثمانية في آسيا الصغرى والهلال الخصيب، وهي، بحسب الحجم والأهمية، تركيا والعراق وسورية. وبما أن هذه الدول كانت جزءاً من كُل، هو الدولة العثمانية، أربعة قرون كاملة، فقد سلكت جميعاً في العقود الأولى لنشأتها طريق التطور نفسه تقريباً. لذلك، يجد المتتبع لمسار التحول السياسي- الاجتماعي لهذه البلدان الثلاثة أن القطيعة التي سببتها الحرب العالمية الأولى، وعمقتها سنون الحرب الباردة ولعبة التحالفات الإقليمية التقليدية، لم تستطع أن تخفي مظاهر تماثل مهمة في مسيرة تطورها التاريخي.
فالصحوة القومية العربية كانت توأم الانبعاث القومي التركي، وكلاهما استمد أكثر أفكارهما من الأدبيات القومية الألمانية. فتأثرتا ببسمارك، وحاولتا السير على خطاه في تحقيق الحلم القومي. وبسبب نزوع الفريقين إلى إقامة مشروع بناء أمة، أساسه الثقافة واللغة والعرق (الإثنية عند بعضهم) كان لا بد من الافتراق. لكن الأتراك كانوا أوفر حظاً من إخوتهم العرب، فلم يقعوا تحت الاحتلال الغربي، بل قاوموه بشدة، وأحبطوا محاولات احتلال بلادهم وتقسيمها إلى مناطق نفوذ. ونتج عن ذلك حصول تطابق كبير، وإن لم يكن كلياً بين السكان والأرض في حالة تركيا، ساهم في تحولها إلى دولة-أمة، مكتملة الملامح والصفات. وساعد ذلك الأتراك على الانتقال من الترجمة الألمانية للفكرة القومية، حيث تبقى الثقافة واللغة أساس الانتماء القومي وبناء الأمة، إلى التفسير الفرنسي، حيث تشكل الدولة- أي الكيان السياسي- الحاضنة التي تقيم بين جنباتها الأمة، وتنتهي بإقامتها نزعات التطلع إلى ما وراء الحدود، حيث يوجد سكان آخرون يشتركون في اللغة والثقافة، لكنهم يقيمون وينتمون إلى كيانات سياسية أخرى، وهو الحال الذي وجد العرب أنفسهم فيه، نتيجة التقسيمات الاستعمارية، فحاول بعضهم التأقلم معه، والقبول به، في حين لم يستطع آخرون فعل ذلك، ما أدخلهم في حالة من التناقض والصراع الدائم بين ما هو قائم وما هو مأمول قيامه.
ثلاثية أتاتورك
بعد احتواء التهديد الخارجي، بدأ أتاتورك، وهو الذي برز زعيماً قومياً، بعد أن قاد الجيوش التركية في معركة "جناق قالة" الشهيرة ضد الحلفاء، مشروع تحديث الدولة والمجتمع. فقاد ثاني أهم انقلاب عسكري في العالم الإسلامي على النخب السياسية الحاكمة التي اتهمها بالضعف والفساد والاستسلام أمام الغرب الطامع في تركيا (قاد الانقلاب الأول الاتحاد والترقي على السلطان عبدالحميد الثاني عام 1908)، وأعلن قيام الجمهورية التركية الحديثة. رأى أتاتورك أن نتائج الحرب لم تكن كلها كارثية، بل ساعدت تركيا على التخلص من أعباء أقاليمها في المنطقة العربية والبلقان. وبالتالي، أفسحت المجال أمام انطلاق مشروعها النهضوي الحديث. ولتأكيد عدم وجود طموحات إقليمية لبلاده، أطلق الزعيم التركي شعاره "سلام في الوطن، سلام مع العالم".
اعتبر أتاتورك، الذي تأثر بالتجربة الأوربية، ثلاثيته "العلمانية، الجمهورية، الدولة المركزية"، أساساً لنجاح مشروعه في التغيير. وانطلاقاً من الحاجة إلى ما اعتبره نهجاً انقلابياً، اعتمد أتاتورك في مسيرته التحديثية على النظرية النخبوية، معتبراً أن تطوير المجتمع التركي "المتخلف" مسؤولية النخب "المتنورة"، فحاول فرض مشروعه على المجتمع بالقوة، مستلهما في ذلك كتابات الفيلسوف التركي، ضياء غوكالك، عن التتريك والتحديث والتغريب.
وبسبب نجاحه في التخلص من الهيمنة الأوروبية، وإطلاق مشروع بناء دولة حديثة، تحول أتاتورك إلى ملهم لكثيرين من قادة العالم الإسلامي الذين حاولوا تقليد مشروعه بنجاح متفاوت، فكان له تأثير طاغ على محمد علي جناح، مؤسس باكستان الحديثة، والشاه محمد رضا بهلوي الذي انتهت محاولاته بتقليد أتاتورك إلى نتائج كارثية.
في العالم العربي، أيضاً، كان للزعيم التركي معجبون؛ إذ استلهم الحبيب بورقيبة كثيراً من سياساته، وحاول حزب البعث في سورية والعراق تقليده في فرض التغيير من الأعلى، والتأكيد على دور المؤسسة العسكرية والحزب الواحد في قيادة عملية التغيير، والقضاء على النخب المجتمعية التقليدية المتهمة "بالرجعية"، وفرض هيمنة الدولة على المجتمع في إطار مشروع التحول الاجتماعي- الاقتصادي.
بعد وفاة أتاتورك، استمر الجيش في لعب دور مهم في الحياة السياسية التركية. وحتى عام 1950، ظل حزب الشعب الجمهوري الذي أنشأه "الحزب القائد" للدولة، باعتباره وصياً على إرث مؤسس تركيا الحديثة. لكن الضغوط الداخلية والخارجية دفعت باتجاه إصدار قانون للأحزاب عام 1945، ثم إجراء أول انتخابات تعددية، بعد ذلك بخمسة أعوام. وفي العقود الثلاثة التالية، حاول الجيش أن يمارس دوره من منطلق حماية الأمة، وليس قيادتها، لكنه كان يجد نفسه، في كل مرة، مدفوعاً إلى الخروج عن هذا الدور، بحجة وجود خطر على الدستور والقيم الجمهورية العلمانية، وفي أغلب الأحيان، بدعوة من النخب السياسية المدنية المنقسمة، الضعيفة، والفاسدة. وعليه، تدخل الجيش في ثلاث مناسبات مختلفة في الأعوام 1960 و1971 و1980، وإن كان ينسحب بهدوء بعد ذلك، ويعود إلى تسليم السلطة إلى المدنيين، والحكم من وراء ستار.
إلا أن نقطة التحول نحو ديمقراطية حقيقية بدأت فقط عام 1983، عندما سمحت المؤسسة العسكرية بإجراء انتخابات تعددية، حملت تورغوت أوزال، الأب الفعلي لنهضة تركيا الاقتصادية الحديثة، إلى رئاسة الحكومة. وجاءت هذه الخطوة، بعدما سادت قناعة مفادها بأن تركيا تجاوزت أصعب المراحل في تاريخها المعاصر، وأسست لاستقرار سياسي، عماده سلطة المركز. لكن، سرعان ما تبين هشاشة هذا الاستقرار المصطنع المفروض بقوة الدولة، وأجهزتها الأمنية والعسكرية، بدل أن يكون نتيجة حالة سلم اجتماعي تعاقدي، أساسها العدالة الاجتماعية والحرية الفردية والرخاء الاقتصادي. وبذلك، بدأ الربط بين الاستقرار السياسي والاستقرار الاجتماعي الذي تطلب، بدوره، حل المشكلات الاقتصادية وتحريك عجلة التنمية، ومن هنا، كانت البداية.
نجاح تركي
خلال هذه الفترة، اتضح للأتراك أن الدولة المركزية القوية قد تكون نجحت في الحفاظ على وحدة البلاد، وتأكيد هويتها الوطنية وحمايتها من أعداء الخارج، لكنها، في المقابل، فشلت فشلاً ذريعا في حل المشكلات الاقتصادية، كما أسهمت في تفشي ظواهر اجتماعية خطيرة، أبرزها الفساد وتصدع الإدارة وتدهور القضاء، وتفسخ قيم المجتمع، وانعدام أخلاقيات العمل. وهكذا، بدا التحول نحو اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة الذي أكد عليه مصطفى كمال مخرجاً وحيداً من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تعيشها جمهورية أتاتورك. لكن هذا التحول كانت له مشكلاته، فقد تبين أن نقل بعض مسؤوليات الدولة إلى قوى المجتمع سيؤدي إلى نتائج اجتماعية خطيرة، إذا لم يترافق مع إصلاح سياسي حقيقي، تتحمل فيه الحكومة مسؤولياتها أمام الشعب، ويمارس البرلمان دوره الرقابي، بشكل يفضي إلى القضاء على الإفرازات السلبية التي غالباً ما ترافق عمليات التحول الاقتصادي. فالمجتمع لا يمكنه تحمل آثار الانتقال الباهظة من دون الحصول على مقابلٍ مغرٍ، يكون عماده إطلاق الحريات العامة والسماح بإنشاء أحزاب سياسية وصحافة حرة ومؤسسات مجتمع مدني، تتحمل جزءاً من مسؤوليات الدولة المتقلصة في مراقبة القطاع الخاص، والدفاع عن مصالح الفقراء والسيطرة على أمراض التحول الاقتصادي- الاجتماعي.
وهكذا بدأت عجلة الإصلاح السياسي بالدوران، فجرى وضع دستور جديد حفظ الحقوق الفردية، وأقر مبدأ فصل السلطات، بغية قيام نظام ديمقراطي برلماني. وراعى الدستور توزيع مهام السلطة التنفيذية بين مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية الذي تماثل صلاحياته صلاحيات أي رئيس في أي نظام دستوري برلماني ديمقراطي، أي أنه يلعب دور الحكم المحايد، ويقف فوق جميع الأحزاب. كما تم تشكيل مجلس للأمن القومي، يرأسه الرئيس، ويضم كبار القادة المدنيين والعسكريين. لا يتدخل المجلس في تفاصيل الحياة اليومية، وليست له توجهات أو انتماءات حزبية، إنما يعالج الأمور الاستراتيجية التي تهم البلد ويناقش القضايا الكبرى، ويمثل كل الأمة. أما القضايا المحلية فتترك معالجتها للحكومة التي يحاسبها البرلمان بكل شفافية، وفق مبدأ التوازن بين السلطات، ولا يتدخل المجلس في الأمور الداخلية، إلا لحماية الدستور. هذا هو النظام الذي وضع تركيا على طريق الديمقراطية، وفرض على الجميع، بمن فيهم الإسلاميون، الالتزم بروح الدستور وقواعد اللعبة الديمقراطية، إذا أرادوا حكم البلد، وفق الإرادة الحرة للأمة والشعب.
سؤال سورية والعراق
السؤال، الآن، هو: لماذا لم تسلك سورية حتى اندلاع ثورتها، والعراق حتى الغزو الأميركي، مسار التحول الاجتماعي-السياسي الذي سلكته تركيا، على الرغم من نقاط التشابه الكثيرة بينها؟ فالدول الثلاث نشأت حوالى الفترة نفسها من رحم الدولة العثمانية، وفيها جميعاً كانت المؤسسة العسكرية تلعب دوراً مركزياً في الحياة السياسية، لا بل كانت الحاكم الفعلي، سواء من وراء ستار أو مباشرة عبر الانقلابات العسكرية المتكررة. وتميزت البلدان الثلاثة بوجود دولة مركزية قوية في مواجهة مجتمع ضعيف، ومستسلم لجبروتها. واعتمدت الدولة في البلدان الثلاثة على الأدوات الأمنية والاقتصادية، لتأكيد هيمنتها على المجتمع، وجرى اعتماد حكم الحزب الواحد في التأسيس لدولة الاستبداد وإغلاق المجال العام أمام أي لون سياسي مختلف، وفيها جميعاً انقلبت نخب جديدة على المجتمع التقليدي وقيمه، حاملة مشروع تحولٍ، عماده التغريب والتحديث والدولة المركزية والروح القومية والقيم العلمانية. هناك بالتأكيد نقاط تماثل أخرى، لا يتسع المجال لذكرها، لكن المهم في الأمر أن المرحلة التي بلغتها تركيا عام 1983 لم تصل إليها الدولة في سورية أو العراق، لا بل سلكت طريقاً معاكساً تماماً، انتهى بتدمير البلدين، وحتى تهديد وجودهما بالمعنى المادي.
هناك بالتأكيد أسباب كثيرة لافتراق التجربة التركية عن التجربتين السورية والعراقية، لا يسمح المقام بذكرها جميعاً، لكن المهم أن الافتراق حصل في العقود الثلاثة الأخيرة، عندما تحول نظام الحكم في سورية والعراق من نظام شمولي (totalitarian)، يجسده حكم الحزب الواحد الذي يعبر عن مصالح طبقات اجتماعية معينة، ويحكم باسمها أو بالنيابة عنها، كما كان في تركيا حتى عام 1950 وفي سورية والعراق، حتى أواخر سبعينيات القرن العشرين، إلى نظام استبداد فردي (authoritarian) لم يلبث أن انتقل، في سورية خصوصاً، إلى الطور العائلي الأوليغاركي (oligarchy)، تحول بموجبه الانتماء والولاء من الدولة والوطن والحزب إلى الفرد والعائلة وشبكة المصالح المرتبطة بهما. هنا، يصبح اسم البلد ومصيره ومستقبله مرهوناً باستقرار العائلة (well-being)، لأن بقاء البلد ووجوده يصبح مرتبطاً بها. هكذا تصور الأمور، فإن زالت زال معها البلد لا محالة، إنها دولة السلالة القومية (dynastic nation-state)، وهي مخلوق عجائبي محدود الانتشار، ناتج عن تزاوج قيم عائلية، ذات طبيعة فوق-قانونية بأدوات ومظاهر حكم عصرية. هنا، لا تعود الدولة ممثلة للإرادة العامة (common will)، أو معبرة عنها، كما صورها جان جاك روسو، ولا تعود أدوات القمع التي تمتلكها مسخرة لخدمة الاستقرار والصالح العام (common interest)، كما رآها ماكس فيبر، بل تصبح الدولة أداة قهر وهيمنة، بيد عصبة عائلية، تجد نفسها في حرب دائمة مع مجتمعها، وهي الكارثة الكبرى الأخرى التي نجت منها تركيا، بعد فشل محاولات استعمارها، فسلكت فيها الدولة مسلكاً غير الذي سلكته عند عرب المشرق –شركاء الإرث العثماني.