بعد أن تجاوز الستين، لم يجد السعودي فهد الجبير، حلاً لأداء الحج للمرة السادسة في حياته، غير محاولة التسلل إلى المشاعر المقدسة، إذ لا حق له في الحصول على تصريح نظامي، لأن آخر حجة له لم يمر عليها خمس سنوات، لكن فهد أصر على الدخول خلسة، بيد أن حلمه بالحجة السادسة تحوّل إلى مأساة كبيرة، بعد أن سقطت السيارة القديمة التي كان يستقلها مع خمسة من الحجاج المتسللين من جرف عالٍ، وكادوا يموتون عطشاً بعد أن قضوا في مكانهم يومين كاملين قبل أن تقبض عليهم قوت الأمن السعودية، وتحيلهم إلى التحقيق.
ومع أن قائد السيارة سيتعرض لعقوبة كبيرة تصل إلى غرامة قدرها 50 ألف ريال (13 ألف دولار) لأنه كان يقلّ خمسة حجاج، كما ستتم مصادرة سيارته، إلا أنه شعر بالاطمئنان بعد أن قبض الأمن عليه، لأنه لو لم يحدث ذلك، لمات ورفاقه في صحراء مكة القاحلة.
يقول الجبير لـ"العربي الجديد":"لم يكن لدي خيار آخر، كنت أريد الحج تقرباً لله، ولم أرغب في الانتظار عامين، كي يكون من حقي الحصول على تصريح نظامي، التجربة التي مرت عليّ كانت مخيفة، لم أنم لمدة أسبوع بسبب الكوابيس، بعد أن شارفت على الموت عطشاً".
192 ألف متسلل
الجبير ليست حاله نادرة الحدوث، إذ أعلن الأمن السعودي عن إعادة 192 ألف متسلل، قبل موسم الحج الجاري، كما تم تحويل قرابة 3300 صاحب سيارة للجهات القضائية لمعاقبته، ويؤكد الخبير الأمني ماجد المرشد أن السعودية لا تتساهل مع التهريب والتسلل، ويقول لـ"العربي الجديد":"لم يأت المنع اعتباطاً، أو تقييداً للحجاج، ولكن لأن التهريب يضاعف من عدد الحجاج بشكل يفوق الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة، ويصعب حتى قياسه، ويتسبب في الحوادث. المتسللون لا يملكون خياماً للمبيت، ويقضون وقتهم في الشوارع وينامون في العراء، مما يعطل حركة السير، ويتسبب في الحوادث"، ويضيف :"إذا تمت إعادة نحو 192 ألف متسلل، فبالتأكيد نجح ضعف هذا العدد في الدخول إلى مكة".
ويعاقب القانون السعودي، كل من تم ضبطه وهو ينقل حجاجاً مخالفين بالسجن مدة 15 يوماً، وبغرامة مالية قدرها 10 آلاف ريال عن كل حاجّ يتم نقله، مع المطالبة بمصادرة وسيلة النقل، بحكم قضائي، إن كانت مملوكة للناقل أو المتواطئ أو المساهم، وفي حال تكرار المخالفة للمرة الثانية يعاقب بالسجن مدة شهرين، وبغرامة مالية مقدارها 25 ألف ريال عن كل حاج يتمّ نقله، أما إذا تكررت المخالفة للمرة الثالثة وما فوق فيعاقب بالسجن لمدة ستة أشهر وبغرامة مالية قدرها 50 ألف ريال عن كل حاج يتمّ نقله، وفي كل الأحوال يتمّ ترحيل المخالف إن كان وافداً بعد تنفيذ العقوبة.
لم تنجح تحذيرات الأمن المتكررة في منع المهربين، وعلى الرغم من تأكيد قيادة الحج على عدم التساهل، مع كل من يخالف التعليمات التي تمنع الحج بلا تصريح، تتزايد أعداد المتسللين كل عام، الأمر الذي دفع مفتي عام السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، لأن يفتي بتحريم التحايل على التعليمات المنظّمة للحج، قائلا في فتوى رسمية :"التحايل على التعليمات المنظمة للحج من قبل الدولة محرّم، ومن ذلك الحج بلا تصريح، ولا يجوز إدخال الحجاج إلى المشاعر من دون تصريح".
وبحسب بحث ميداني قامت به وزارة الحج والعمرة السعودية، بالتعاون مع عدد من رجال الدين، ينقسم المتسللون إلى أربعة أقسام، ويقول صالح اللحيدان الذي أشرف على البحث: "القسم الأكبر منهم يتسللون في رمضان أو قبله بحجة العمل، وهم لا يحملون بطاقات، وأغلبهم من اليمن ومالي والنيجر والسنغال وجنوب شرقي آسيا، القسم الثاني يأتون عن طريق المركبات، ويدفعون لصاحب السيارة مبالغ كبيرة، وإذا جاؤوا إلى نقطة التفتيش قبل المشاعر المقدسة يغيرون ملابس الإحرام، وإذا دخلوا مكة نزعوها، وهؤلاء يرتكبون إثماً عظيماً لأنهم خلعوا الإحرام، ولم يذبحوا فدية جهلا منهم، القسم الثالث يفدون ولكنهم خالفوا الأنظمة، أما القسم الرابع فهم يتسللون عن طريق الأقارب في مكة بأسماء مزورة، وهؤلاء يقعون تحت خطر التزوير".
شعاب مكة
لا تبدو مهمه التسلل سهلة، إذ إن 28 ألف عنصر أمني ما بين رجال أمن غير رسميين وشرطة الجوازات وأمن الطرق، يراقبون مداخل ومخارج مكة، ويطوفون في صحاريها للتصدي للمتسللين، وعلى الرغم من القبض على 192 ألف متسلل ومهرب، إلا أن ذروة عمل المهربين تكون ما بين اليوم السادس من ذي الحجة وحتى يوم عرفة، وبعدها يتوقف عملهم لانتهاء توقيت الفريضة، بحسب خالد، أحد المهربين الذين اعتادوا العبور من نقاط التفتيش، والذي شدد على ضرورة عدم الكشف عن هويته.
يقول خالد: "نتقاضى نحو 600 دولار عن كل شخص، نتجاوز عشرات من نقاط التفتيش. ويعتبر وادي فاطمة في محافظة الجموم، المعبر الأشهر للمتسللين إلى الحج، خاصة من خلال عين شمس وأبي شعيب، وعادة ما يعبر المتسللون مشياً متجاوزين الطريق العام متجهين للجعرانة، وبئر الغنم، وعندما يصلون للخضراء يكونون قد تجاوزوا خطر القبض عليهم".
ويدفع الربح الكبير الناتج عن عمليات تهريب الحجاج، الشاب السعودي موسى (رفض الكشف عن هويته)، إلى "خوض التهلكة" كما يقول، إذ يقوم برحلة يومياً، يحصل من خلالها على نحو 3 آلاف دولار، ما يعني أنه في الأيام العشرة للحج قد يحصل على 30 ألف دولار على الأقل. يقول موسى "المبلغ يستحق المخاطرة، الحج موسم لا يفوّت".
ويمارس عيسى (اسم مستعار) تهريب الحجاج منذ 22 عاماً "لدوافع إنسانية وليس من أجل الربح المادي" كما يقول، إذ إن الغرامة التي ستفرض عليه حال القبض عليه أكبر من أي ربح قد يدخل إلى جيبه، ويتابع: "قد أخسر سيارتي، وأدفع غرامة 2652 دولاراً عن كل حاج وقد أُسجن أيضاً، ولكني أبحث عن الأجر من الله قبل كل شيء". بحسب عيسى لا بد أن يمشي المتسللون مسافات طويلة على أقدامهم، عبر طرق لا تستطيع السيارات عبورها، ويتابع: "نسير ليلا لتجنب حرارة الشمس اللاهبة، وللاختفاء عن عيون رجال الأمن".
ارتفاع نشاط المهربين
يعترف قائد قوات الجوازات في الحج، العميد عايض الحربي، بأن نشاط المهربين ارتفع كثيراً في السنوات الماضية، ويقول: "رصدنا أكثر من 60 طريقاً برياً ترابياً غير معبدة يستخدمها المهربون لتهريب ونقل الحجاج الذين لا يحملون تصاريح الحج إلى المشاعر المقدسة، وكانت في السابق طرقاً بعيدة عن مراكز التفتيش"، ويضيف: "قمنا بتغطية هذه الطرق لمنع أي محاولة تهريب، وضبط الناقلين".
يفكر عيسى ملياً قبل أن يرد، وكأنه يخشى أن يظهر بمظهر المتحدي: "أهل مكة أدرى بشعابها، قد تكون قوات الأمن قامت بتشديد الرقابة على الطرق المعروفة، ولكن المهربين وجدوا طرقاً أخرى للعبور من خلالها"، ويضيف مهرب آخر فضل تسمية نفسه بـ"ناصر": "هناك عشرات الطرق التي نسلكها، وهي تتغير في كل مرة لتجنب الملاحقة، نعرف جيداً من أين نمرّ، من يقبض عليهم هم أشخاص حاولوا العبور بأنفسهم، من دون موافقة مهرب محترف"، ويضيف: "أهم الطرق المعروفة طريق الفيحاء، فهو من أنشط الطرق التي تربط الخطوط الخارجية بشمال مكة المكرمة، وما يميز هذا الطريق أنه سهل الاستخدام وواسع ويمرّ بأحياء مخططة، ولا يعرف مستخدموه التوقف، ويعد طريقاً سالكاً للمشاعر المقدسة، ولكنّ الصعوبة تكمن في الوصول إليه أولاً".