لم يتوقع النازح العراقي من مدينة الفلوجة، خليل خلف العيساوي، أن تأتيه فرصة الحج التي يحلم بها منذعشرة أعوام، بينما يعيش في مخيم للنازحين بعد رحيله عن مدينته الواقعة في محافظة الأنبار، غربي العراق.
سبق للنازح العيساوي، والذي يبلغ من العمر 65 عاماً، أن قدّم اسمه ثلاث مرات إلى هيئة الحج والعمرة العراقية، على أمل الفوز بالقرعة التي تجريها الجهة المخولة بمنح تأشيرات الحج ضمن الحصة المقررة للعراق من قبل السعودية، والتي يبلغ عددها 25 ألف تأشيرة (فيزا)، وفقاً لما أكده النائب السابق خالد العطية، رئيس هيئة الحج والعمرة.
بسبب الظروف التي يعانيها العيساوي، إذ يعيش منذ عدة أشهر في مخيم خاص بنازحي محافظة الأنبار تم تشييده على عجل في منطقة الدورة جنوبي العاصمة بغداد، قرّر بيع مقعده الذي انتظره عشرة أعوام كاملة، من أجل تأمين احتياجات عائلته المعيشية، ولو لفترة قصيرة من الزمن قبل أن يبحث عن شيء جديد يبيعه، كما يقول.
1000 دولار للمقعد
طلب العيساوي من معدّ التحقيق أن يذكر اسمه كاملاً، في محاولة للفت نظر العالم إلى المأساة التي يعيشها النازح العراقي، والتي أجبرتة على بيع مقعده في الحج بمبلغ 800 دولار إلى أحد الميسورين مادياً، لتتم عملية التنازل بشكل رسمي ولقاء دفع رسوم مالية شخصية إلى الموظف المشرف على هذه العملية، بحسب ما روى العيساوي لـ"العربي الجديد".
يؤكد النازح العراقي أن الخطوة التي أقدم عليها تكررت مع آخرين يعرفهم بشكل شخصي، أحدهم قريبه وابن مدينته، ونزح قبله إلى مدينة أربيل، إذ تكفل مشتري (الفيزا)، وهو من سكان العاصمة بغداد، بدفع تكاليف سفر قريب العيساوي، من بغداد إلى أربيل، ذهاباً وإياباً، من أجل إتمام عملية التنازل، بالإضافة إلى مبلغ 600 دولار، منحها له، ودفعها قريب العيساوي لتسديد قسط الإيجار الشهري للمنزل الذي يقطنه في منطقة شقلاوة في كردستان العراق.
لا يعد الاتجار بتأشيرات الحج في العراق ظاهرة جديدة، كما يؤكد جاسم الشيخلي، وهو متعهد نقل ويمتلك شركة للحج والعمرة في بغداد، إذ جرت في الماضي بشكل محدود، ولكن التطور الحاصل فيها، يتمثل في دخول حصص المحافظات العراقية التي تشهد عمليات عسكرية ضد تنظيم داعش إلى سوق المضاربة الخاص بهذا النوع من التجارة، كما رصد مالك شركة الحج.
الشيخلي أوضح لـ"العربي الجديد" أن حصة محافظة الأنبار تبلغ 493 مقعداً ونينوى 735 مقعداً والقسم الأكبر من هولاء يعيشون ظروف النزوح وعدم الاستقرار، فضلاً عن نفاد أغلب مدخراتهم المالية في توفير السكن والمعيشة في المناطق التي انتقلوا إليها في العاصمة بغداد ومدن إقليم كردستان، مضيفاً أن عدداً من هؤلاء باع مقعده إلى الراغبين والقادرين، بينما تمت مصادرة مقاعد الذين لم يراجعوا ويتواصلوا مع الجهات الرسمية بعد ظهور الأسماء في وسائل الإعلام والموقع الرسمي لهيئة الحج والعمرة.
وينفي الشيخلي قيامه شخصياً بتسهيل مثل هذه المعاملات، ويؤكد في الوقت ذاته حصولها في مكاتب أخرى تمتلك علاقات مع جهات نافذة في هيئة الحج والعمرة، إذ يسهلون عملية تنازل المالك القديم عن مقعد الحج وتسجيله باسم مشتريه الجديد، مقابل مبلغ لا يقل عن 300 دولار للموظف الذي يقوم بتسهيل هذه العملية، بحسب كلام الشيخلي.
وسطاء لتسهيل البيع
متعهد نقل الحجاج، أشار إلى أن عمليات البيع والشراء هذه أسفرت عن مهنة جديدة في مجال الحج وهي الوسيط، والذي يقوم بتأمين البائع المحتاج للمال ولديه (فيزا) والزبون القادر، والذي يكون أحياناً أدى الفريضة من قبل، ويرغب في تكرارها لتمكنه المادي، أو لأنه لم يفز من قبل في قرعة الحج التي تجريها هيئة الحج العراقية، بحضور واسع من الشخصيات الرسمية ووسائل الإعلام.
بعد مجموعة من الاتصالات، أمّن معدّ التحقيق لقاء مع وسيط يطلق على نفسة اسم أبو ضياء المحلاوي ويرتبط بحكم السكن المشترك بعلاقات واسعة مع عدد كبير من أهالي محافظة الأنبار والنازحين منهم تحديداً، والذين يشكلون النسبة الأكبر من بائعي مقاعد الحج، بينما يحصل على المشترين من خلال شبكة علاقات واسعة، تتضمن أصحاب شركات الحج والعمرة ومتعهدي النقل ووجهاء وأقرباء وأصدقاء، من مناطق عديدة من العراق وفي المقدمة العاصمة بغداد.
أوهم معد التحقيق، الوسيط المحلاوي، برغبته في شراء مقعد حج وحصل منه على قائمة مختصرة من التكاليف التي تضم 1000 دولار للبائع و400 دولار لموظف يظهر في الواجهة، خلف مجموعة من الأشخاص الذين يقومون بإنجاز معاملة التنازل والتسجيل بشكل سليم ورسمي، فضلاً عن التكاليف الاعتيادية لأي حاج يفوز بالقرعة، والتي تتقاضاها هيئة الحج والبالغة ثلاثة ملايين وخمسمئة ألف دينار عراقي "تعادل 2700 دولار أميركي" من دون ذكر نصيبه الشخصي، غير أنه أوضح لاحقاً بأنه يتقاضى نصيبه من البائع حصراً.
ولا يرى الوسيط المحلاوي أي مخالفة قانونية أو شائبة أخلاقية في عمله الذي يصفة بالخدمة لطرف يمتلك المال ويرغب في الحج ولا يستطيع إليه سبيلاً، عبر قرعة الحكومة وآخر يعيش ظروفاً صعبة ويحتاج لأي مبلغ من أجل إطعام عائلته وإسكانهم بعد أن أجبر على ترك بيته وأصبح يعيش حياة النزوح القاسية، لافتاً إلى أن مهمته ليس فيها إجبار أو قهر وإنما تراضٍ وتوافق بين البائع والمشتري ويعود بالنفع عليهما.
الموضوع يثار في مكة
الخلافات بشأن مقاعد محافظتي الأنبار ونينوى وصلت إلى مكة، إذ دارت مشادة كلامية في العام الماضي بين رئيس ديوان الوقف السني عبداللطيف الهميم من جهة ورئيس هيئة الحج والعمرة العراقية خالد العطية، بحسب شهادة أدلى بها إلى "العربي الجديد" الشيخ قاسم سلمان الجبوري الذي عمل مرشداً دينياً في البعثة العراقية في ذلك الوقت.
وأوضح الجبوري أن المشادة حصلت أثناء انعقاد مؤتمر المرشدين الدينيين والمتعهدين العراقيين في مكة المكرمة العام الماضي، حين اتهم الهميم هيئة الحج والعمرة العراقية التي يترأسها القيادي في حزب الدعوة الحاكم خالد العطية، بالاستيلاء على 500 مقعد مخصصة لمحافظة نينوى ومنحها إلى نواب في البرلمان ومسؤولين في الحكومة العراقية بلا وجه حق.
ويعتقد الجبوري أن الموضوع تم غلقه، بعد وساطات من أطراف سياسية تدخلت بين الهميم والعطية، ووعود بتشكيل لجنة لمتابعة قضية حجاج نينوى ونشر تفاصيلها بشكل علني، مستدركاً أن موسم الحج الحالي بدأ من دون الكشف عن أي معلومة رسمية بهذا الشأن الذي دار العام الماضي.
هيئة الحج تنفي
هيئة الحج والعمرة العراقية دافعت عن موقفها في هذه القضية، إذ أعلن رئيسها خالد العطية أن حقوق أهالي المناطق الساخنة مضمونة ولا خوف عليها، نافياً وجود أي نية لمصادرة مقاعد الحج الخاصة بهم.
وبيّن العطية في مؤتمر صحافي قبل سفر بعثة الحج العراقية بأسبوع، أن كل شخص لم يستطع السفر لأداء مناسك الحج من المحافظات الساخنة لهذا العام، سيتم الاحتفاظ بمقعده إلى العام المقبل، مبيناً أن المقعد الحالي سيتم منحة للشخص الذي يليه في تسلسل القوائم الرسمية الخاصة بهذه المحافظة، مع تعويض الشخص الأصلي في المواسم المقبلة بسبب عدم قدرته على السفر في العام الحالي.
ويطابق ما قاله العطية ما جاء على لسان مصدر في دائرة الإعلام والعلاقات التابعة لهيئة الحج في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، من أن الكلام الذي يتناقلة بعضهم بخصوص بيع مقاعد الحج والانتفاع منها مادياً هو مجرد إشاعات لا أساس لها من الصحة، متهماً من سماهم "مغرضين من مكاتب وشركات تختلف مع الهيئة" بترويج هذه الأخبار للإضرار بسمعة الهيئة والإساءة إليها.
وبحسب المصدر غير المخول بالتصريح لوسائل الإعلام فإن الشركات الوهمية، والتي تمارس الاحتيال على المواطنين بحجة الحج التجاري أو تتقاضى مبالغ لضمان ظهور الأسماء في القرعة وغيرها من الأساليب لديها مشكلة مع هيئة الحج التي سبق لها أن رفضت ترخيصها كشركات مجازة في مجال نقل ورعاية الحجاج، مما دفع بأصحابها إلى ترويج قصص بيع المقاعد وتسجيلها رسمياً عبر دوائر هيئة الحج.
طريقتان للبيع
من جهته يشير صاحب شركة البراق للحج والعمرة ماجد رسول الطائي، إلى أن هيئة الحج لها الحق في الدفاع عن كوادرها ولكن الأمر لن يغير شيئاً من حقيقة وجود تجارة مقاعد الحج وبطريقين هما حصص المحافظات الساخنة والمقاعد الشاغرة لأسباب خارج الإرادة.
ومع معرفة الطريقة الأولى الخاصة بالنازحين فإن الطائي شرح لـ"العربي الجديد"، الطريقة الثانية، والتي تبدأ بعد إعلان الأسماء بطريقة القرعة، إذ يفترض بالشخص الذي يظهر اسمه أن يراجع الهيئة للمباشرة بالإجراءات خلال 30 يوماً من تاريخ الإعلان، مستدركاً بأن بعضهم يتوفاه الأجل، أو يصاب بمرض عضال، أو يتعرض لظروف قاهرة تمنعه من المراجعة، وهنا تنص التعليمات الرسمية على إسقاط حقة ويمنح المقعد للشخص الذي يليه في التسلسل من ضمن قائمة الاحتياط.
ويواصل صاحب شركة البراق حديثه متهماً موظفين وأصحاب قرار في هيئة الحج بتجاهل قائمة الاحتياط وبيع هذه المقاعد عبر وسطاء مقربين منهم بأسعار لا تقل عن 1000 دولار للمقعد الواحد، مبيناً أن الزبائن كثيرون ويفوق عددهم بكثير عدد المقاعد المعروضة للبيع، بحسب تعبيره.
هل تجوز المتاجرة بتأشيرات الحج شرعياً؟
ما مدى شرعية هذه التعاملات وتأثيرها على صحة الحج؟ يجيب عن السؤال السابق عضو المجمع الفقهي العراقي والناطق الرسمي الشيخ عبدالوهاب الطه، في مقر المجمع بمدينة الأعظمية في بغداد، مؤكداً وقوع الإثم على من يتقديم بالتسجيل للحج وهو ينوي المتاجرة بالمقعد الذي يحصل عليه.
وتابع الشيخ الطه في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن من يقوم بالتسجيل وبنية خالصة لأداء الفريضة ويصعب عليه الأمر فيما بعد، من الأفضل له أن يعطيه هبة لغيره ويجوز له بيعه أيضاً ولكن بشرط عدم وجود النية المسبقة لبيع المقعد أثناء فترة التسجيل.
وبشأن بيع وتوزيع المقاعد الشاغرة أجاب الشيخ الطه، أن الجهة المكلفة بموضوع القرعة والتوزيع بين المواطنين جرى تخصيصها بهذا العمل من قبل الحكومة وليست صاحبة الحق فيه حتى تقوم بمنحه لمن تشاء، وبالتالي فإن هناك قائمة احتياط للأشخاص الذين يجب أن يمنحوا هذه المقاعد في حالة عجز أصحابها الأصليون عن الذهاب لتأدية الركن الخامس من الإسلام.